خيال علمي

محمد أسليم: النهاية / رواية (01)

نزل الخبر كالصاعقة، لم يكن بوسع امرئ واحد على سطح الكوكب أن يتجاهله، بل وحَّد الناسَ وجعلهم في لحظة واحدة يحسون بأخوَّة ووحدة مصير فشلت الأديان والعلوم منذ بدء التاريخ في نسجها بينهم. عجبا مما صنعته بضع كلمات:
«رصدَت وكالة نازا الفضائية، عبر تلسكوب هابل نيزكا فضائيا بطول 100 كلم وعرض 10 كلم، متجها نحو الكرة الأرضية، بسرعة مليون كلم في الثانية، هو يبعد عنا الآن بمسافة 10 مليار(*) سنة ضوئية، وسيصطدم بكوبنا لا محالة في يوم 25 يونيو القادم على الساعة 10 صباحا و15 ثانية بتوقيت غرينتش العالمي».
بدا الخبر في البداية أكذوبة فاتح أبريل أكثر منه يقينا. لم يكن بوسع أي رأس من ملايير هذه الرؤوس الصغيرة التي تملأ الكوكب، بميراث ينحدر من آلاف السنين، وأحلام تشرئب للعيش في المريخ، أن يصدق مثل هذه الكلمات، لكن الحقيقة على مرارتها لم يكن بوسع أي كان تجاهلها؛ فما هي إلا بضع ساعات عن أول إرسال للنبأ حتى أوقفت محطات البث الإذاعي والتلفزي في العالم قاطبة إرسالها، وتفرغت كليا لتغطية الحدث العظيم. تغطية ماذا؟ ولمن؟ دخل الكوكب في هذيان عظيم. هو الموت الحتمي عام ومعمَّمٌ، وكل من على وجه الأرض، شعوبا وقبائل وأفرادا، يحضر جنازته الفردية، ينعى نفسه لنفسه.
في البداية، ركزت محطات البثين الإذاعي والتلفزي الدولية اهتمامها على تفسير ما حدث، واستدعى كل بلد خيرة ما عنده في اختصاصي علم الفلك، بل وحتى جيولوجا علم الفضاء، والفيزياء، والكيمياء والرياضيات. وتبارى العلماء بمعارفهم في هذا الباب بما كان يدعو للافتخار بما حققه الجنس البشري من كشوفات هائلة في مجال العلوم: أجمع الكل على أن الظاهرة عادية جدا، وأنها تدخل في باب ما يتواتر حدوثه ليس هنا في الكرة الأرضية فحسب، بل وكذلك في سائر أنحاء مجرة درب التبانة وغيرها، وأن كوكبنا الصغير ليس أول قطعة ستختفي من بين ملايير الأجسام الحجرية المتناثرة في مجرة درب التبانة.. أكثر من ذلك تكرر في غير ندوة أن وجودنا باعتبارنا جنسا ينتمي إلى فصيلة الثدييات إنما نتج عن ارتطام نيزك بكوكب الأرض منذ 60 مليون سنة، اختفت على إثره الدينصورات وكائنات أخرى وحجبت سحاب الغبار التي انتشرت فوق الأرض على إثر الاصطدام المهول الشمسَ طيلة ثلاثة أشهر متوالية غرق فيها كوكبنا في ليس دامس، ومن هناك كان ميلادنا مثل باقي إخوتنا الثدييات من بقر وكلاب وقطط ودلافين وفيلة وقردة إلى آخر القائمة…
قام نوع من الحقد الذي وإن كان من غير الممكن تفهمه، فله مبرراته، على محطات الإذاعة والتفزة أولا التي أشاعت النبأ، ثم على هيئات العلماء التي كانت على علم تام، ومنذ زمن بعيد، بالوقوع المرتقب لمثل هذه الأشياء، ومع ذلك لم تفعل شيئا لتغيير مسار السياسة العالمية، بحيث تضع كل الانشغالات في مقام ثان بعد الحرص على بقاء حياة الكوكب، «وكم كان ذلك ممكنا»، عبر أكثر من قائد من قواد حشود المظاهرات التي بلغ طول إحداها 100 كلم من المتظاهرين، وبلغ أخرى 20 مليون متظاهر دفعة واحدة، بحيث لم تعد تجدي وسائل القياس المعهودة، فاستبدلت الأرقام في البداية، بالسعة المكانية، حيث صار يقالُ خرجت اليوم مظاهرة في سدني طولها 20 كلم، وبعد ذلك لم يُجد هذا العلم الحسابي الجديد، فركنت وسائل الإعلام إلى الطريقة الأكثر بدائية، فصارت تقول، مثلا، «تظاهر سكان مدينة واشنطن»، «تظاهر سكان طهران»، بما يفيد أن مجموع سكان المدينتين قد خرجوا في مظاهرة، ثم لم تجد هذه الوسيلة نفسها، أمام خروج أمواج السكان الغاضبين كأمواج تسونامي، فصار يقالُ: «خرج المغرب في مظاهرة ضد النيزك القادم من السماء»، «تظاهرت الصين اليوم ضد النيزك المتربص بالكرة الأرضية المصمم على إبادة منجزاتها الحضارية النبيلة»…

***

سرت قشعريرة في أجساد الناس قاطبة، فأبدتهم مثل فريق هائل من الناس كانوا منهمكين في التسابق جريا أو في ماراطون.. كانوا منهمكين في سباق وضع له كل مشارك طاقاته كلها حالة التأهب القصوى كما لو كان الفوز مسألة حياة أو موت… وخلال ذلك علا صوت يخبر بإلغاء السباق…
عملت اللامبالاة أرجاء الكوكب قاطبة: إحساس واحد ورد فعل واحد وسلوك واحد في سيدني كما في طوكيو ونيويورك وتورونتو وطهران وجدة وبكين وكوناكري والدار البيضاء… انقطع الناس عن العمل، خرجت النساء والأطفال من البيوت، والتجار من المتاجر وقد انسلخت من نفوسهم غريزة الملكية والتملك كليا.. تلك الغريزة التي قال عنها أحد المشاركين في واحدة من عشرات آلاف الندوات التلفزيونية التي تجندت لمناقشة الحدث وحولت الكوكب بين عشية وضحايا إلى أكاديمية فكرية بمعنى الكلمة:
– إن كان كل شيء سيمضي هباء في غضون ثلاثة أشهر، بعدها تصير الحياة ليس البشرية فحسب، بل وكذلك الحيوانية والنباتية في حكم كان، فلأننا سكرنا بهذه الغريزة حد الثمالة.. توهمنا أن الحياة لم تخلق إلا لنا وأننا لم نخلق إلا لها، والحال أن ما من امرئ جاء إلى هذه الحياة إلا وعاش تجربة الموت والفناء (موت الأقارب والجيران).. ومع ذلك، لم يحرك أحدنا ساكنا، ولا رفع آخر صوته عاليا أن عرجي أيتها البشرية على هذه الطريق، فهي مسدودة والسفر فيها محفوف بمخاطر عظمى… ولا حتى الأنبياء والأديان ولا العلم، بل الآن تبين أن العلم ليس سوى وجه آخر للدين، أكثر العلوم إمعانا في الإلحاد هي أشدها لقاء مع الدين: الدين يمتهن الناس ويستعبدهم، ويسوقهم كالقطعان، بالعبث بعقولهم وتهديدهم بيوم القيامة… والعلم يستعبدهم بفرض العمل ووضع المال مكافأة وحيدة لكل عمل…
قاطعته منشطة البرنامج:
– ولكن، يا سيدي، ألا ترى أن هذه هي القيامة التي تحدثت عنها جميع الأديان؟؟؟
أجابها محتجا:
– إذا كان الأمر كما تقولين فلماذا وضعت هذا العنوان لبرنامجك: «ثمة بصيص من الأمل رغم كل شيء… لنبحث عنه جميعا»؟ أما كان الأليق أن تضعي بدله «جوقة في مراسيم تأبين البشرية» ونخرج من الباب الواسع؟؟!!…
ثم انسحب من مائدة النقاش وغادر الاستوديو بنرفزة ملحوظة…
ارتبكت المنشطة، أحست كما لو أنها أفلتت الفرصة الوحيدة لإنقاذ الكوكب والحياة، هي عبارة عمن معادلة رياضية أو فيزيائية قابعة في تلك الجمجمة الصغيرة التي كانت جالسة هنا قبالة الكاميرا ثم اختفت منذ ثوان.. تداركت ذهولها وصمتها اللذين حولاها إلى كتلة جامدة أمام الكاميرا بينما ملايين المشاهدين مصلبين مثل أصنام أمام شاشاتهم في انتظار ذلك البصيص من الأمل الذي وعدتهم به منذ انطلاق أول حلقة من حلقات لذلك البرنامج الذي آل في الأخير إلى حدث يعكر على الناس صفو هذين الأسابيع المعدودة التي بقيت لهم في هذا الكوكب اللعين.. استدركت صمتها، قالت:
عجزت البشرية عن بناء حضارة تأخذ وجهات أخرى في الفضاء بدل البقاء في هذا السجن الصغير الذي ستهدّ قلاعه ويتحول إلى هباء في بضع لحظات.. ذات ثانية من ثواني يوم 25 يونيو المقبل كل شيء سيكون في حكم كان، ثم أخرجت روبورتاجا مصورا عن وقائع انطلاق النيزك العظيم…
مما لوحظ آنذاك أن الإذاعات والتلفزات صارت كريمة مع الناس وعادلة أعدل من جميع المدن الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة على مدار القرون، إذ لم تعد تراعي في المشاركين في ندواتها ولقاءاتها تفاوت مستوياتهم المعرفية ولا الاجتماعية ولا الثقافية ولا العرقية ولا اللون ولا الجغرافيا. ولإتاحة الفرصة لجميع الناس للمشاركة كانت أطقم الإذاعة والتلفزة تتوغل في الأدغال وأعالي الجبال وجوانب البحيرات مرفوقة بجيش من المترجمين الفوريين يتولون بث نص الترجمة صوتيا وفي الحين، فكان يحصل أن تعلق جدة من إحدى قبائل البيغمي على فكرة لأستاذ كرسي في الفيزياء النووية أو عالم في جيولوجيا الفضاء بوكالة نازا الأمريكية، فتحظى بإنصات شديد…
ولم يخل الأمر من طرافة ونوادر مزقت الناس في تلقيها تمزيقا؛ فبعضهم كان يضحك إلى أن تنحدر الدموع من عينيه ويستلقي على قفاه، وبعضهم – وفي الآن نفسه ولدى تلقي التعليق نفسه – يشحذ كل طاقاته المعرفية والفكرية والعلمية، بل والمخبرية لفهم تعليق الجدة كما لو كانت عبارات العجوز تنطوي على الطلسم السحري الذي سيعرج مسار النيزك القدم أو يثنيه عن الاصطدام بالكوكب… ألا ما أشد الإنسان تعلقا بالخرافات والسحر حتى في لحظات الموت…
حوّل الخبر كل امرئ فور تلقيه إلى شبه حاسوب وجد نفسه فجأة مفصولا عن الشبكة، بل وعن التيار الكهربائي.. كل فرد اختلى بنفسه في وحدة وعزلة رهيبين؛ لا يعلق على ما يدور من حوله ولا يبالي بما يقع… فعرفت جميع مدن الكوكب في الأيام الأولى عطالة تامة، واختلالا في كافة النظم؛ الاجتماعية والعائلية والاقتصادية، الخ. استفاد منها المحرومون الأميون بكيفية استنتج معها البعض أن الإنسان خلق حيوانا حتى النخاع وألا شيء يضع حد لهذه الحيوانية وأنه لو كان بوسع الميت المحمول إلى القبر أن يتحرك ويتكلم لما تردد موتى، قبيل مواراتهم تحت التراب، عن التلفظ بأخس العبارات وأقذعها وارتكاب أفظع الجرائم وأبشعها…
وبالفعل، لم يعد الناس يولون عناية لإغلاق أبواب شققهم المنزلية خوفا من السرقة؛ فكان يحصل أن تكون عائلة جالسة قبالة التلفاز تواكب آخر المستجدات، فيدخل غريب إلى المنزل، ويذهب إلى الثلاجة ويتناول ما شاء، بل وينادي من شاء من إناث المنزل، فيختلي بها في الفراش ويستمتع بها كما طاب، على مرأى ومسمع من ذكور المنزل ولا أحد يحرك ساكنا، تختلط وحوحات الجماع بأنباء النيزك القادم وهتافات الحشود المتظاهرة …
أما عيادات أطباء الولادة، فقد امتلأت عن آخرها بالنساء اللواتي فاق حملهن 6 أشهر، كلهن جئن للإجهاض. أما اللواتي بقيت تفصلهن أكثر من ثلاثة أشهر عن الولادة، فلم يعبأن بالأمر، في حين امتنعت كل الإناث عن أخذ حقنات منع الحمل، كما امتنع كل الذكور عن وضع العازل الطبي في ممارساتهم الجنسية التي لم تنعدم قط، بل أورد أحد معاهد استطلاع الرأي والإحصائيات أن شهوة الجماع زادت لدى الرجال والنساء على السواء، بل واستقامت الممارسات الجنسية، بحيث اختفت المثلية الجنسية نهائيا من سلوكات الناس وكأن الجنسين معا أفاقا من نوم أو عادا إلى الرشد بعد غي دام آلاف السنين.. وشكل هذا الموضوع في حد ذاته ظاهرة لعدة ندوات ودراسات، أعدت في عجالة، وذهبت كل مذهب في التفسير : فمنها من ربط ذلك بحركة الأجرام السماوية المحيطة بكوكبنا الأرضي أو المنتظمة معها في مدار واحد، فرأى أن ذلك من تأثير النيزك القادم نفسه، مدعما ذلك بالقول بوصول ذبذبات تحدث تغييرات ملحوظة في جسم الإنسان، كما بأجهزة اخترعت خصيصا لهذا النوع من القياس.. ومنهم من قدم نظريات ثبت فيما بعد أنها ترتد إلى العصر الحجري فأنكر عليه ذلك إنكارا شديدا في البداية، لكنه كان من الذكاء أو البلادة بحيث أقنع جميع المعترضين بأن كوكب الأرض نفسه إنما هو كهف نعيش فيه، ليلقي باللائمة المشفوعة باللعنة على هذا النيزك الحقود الذي جاء يعترض سير البشرية نحو العصر الحديدي الذي كان اشباه لنا قد بلغوه سابقا، إلا أن نيزكا مماثلا ضربهم معترضا زحفهم نحو العصر الضوئي.
——————
(*) رقم مؤقت سيتم تدقيقه.

———

منتديات ميدوزا بتاريخ 29/03/2005

السابق
فيليب بوتـز Philippe Bootz:  الأدب الرقمي: تَحوُّلٌ للأدب
التالي
محمد أسليم: النهاية / رواية (02)