طبيعة الحياة

جان. شنيدر: بيولوجيا الفضاء والمتخيَّل والرَّمزي. إبستيمة – تحليل لـ «الحياة خارج النظام الشمسي» / ترجمة: محمد أسليـم

البحث عن الحياة في كواكب خارج المجموعة الشمسية

إذا فشل البحُث خلال عقد من الزمن عن الحياة على المريخ أو كوكب أوروبا فسيبقى هناك فضاء شاسع جدا ينتظر الاستكشاف، هو الكواكب التي تقع خارج المجموعة الشمسية. تمَّ حتى الآن اكتشاف حوالي 80 نظاما كوكبيا بجوارنا على بُعد مائة سنة ضوئية[1] (انظر القائمة المحيَّنة في موقع (http ://www.obspm.fr/planetes. ويُستقرأ منها أنَّه يُحتمل أن يكون هناك عدة مليارات من الكواكب في المجرة. وحيث لا مجال لإرسال بعثات إلى عين المكان قبل نهاية القرن الحالي، ولو إلى أقرب تلك الكواكب منا، فإنه لا يمكن البحث عن الحياة في هذه الكواكب إلا عن طريق التعرف عن بعد. وتأخذ عملية التعرف هته شكلين مختلفين جدا: الأول هو البحث عن بصمات تكنولوجية، والثاني هو البحث عن بصمات بيولوجية. البصمات التكنولوجية من شأنها أن تكون إشارات راديو أو إشارات ضوئية تعرض بعض الخصائص «الاصطناعية»، مثل بروفيل زمني مربع شبيه باتصالاتنا السلكية واللاسلكية، وهو ما يُطلق عليه اسم برنامجSETI [2]. أما التوقيعات البيولوجية، فتدخل في نطاق وظائف الأعضاء خارج المجموعة الشمسية. وبسبب الحيطة المنهجية بنسبة النصف والنزعة المحافظة بنسبة النصف الآخر، فإنه يتم الاقتصار في الوقت الراهن على الكيمياء البيولوجية للكربون والماء. وحيثُ لم تسفر أبحاث الـ SETI عن أي نتيجة، فإنه يُقال إن الحياة قد تكون موجودة بالفعل هناك، ربما في شكل بدائي، مما يبرر النهج الذي يتساءل عن مماثلات لـ «الحياة البدائية» على الأرض، أو على وجه التحديد على الرواية التي تُبنى على هذا التعبير[3]. وبكيفية أدق، يجري البحثُ عن الآثار المباشرة أو غير المباشرة لمعادِلات عملية التمثيل الضوئي. والآثار المباشرة هي لون الغطاء النباتي، أما غير المباشرة فهي إنتاج الأكسجين (بالنسبة للكائنات الموجهة ضوئيا، أي النباتات) أو غاز الميثان (تحلل النباتات). وتقف هذه الأهداف وراء العديد من البعثات الفضائية، أكثرها دلالة بعثة كورو Corot [4]ومهمتها الكشف عن أولى الكواكب الأرضية الموجودة خارج المجموعة الشمسية ابتداء من 2005-2006، وبعثة النازا البحث عن كواكب أرضية Terrestrial Planet Finder[5] التي ستذهب للبحث عن وجود نباتات أو غازات أو كليهما ابتداء من عام 2015، وستسبقها على الأرجح بعثة أخرى حوالي عام 2008 للحصول على الصور الأولى لأرض موجودة خارج النظام الشمسي. وسيتم إنجاز خطوة كبرى عندما سنتمكن ابتداء من عام 2030 من رسم خريطة لأحد الكواكب الموجودة في المجموعة الشمسية أيضا. ولأجل ذلك، يتطلب الأمر نُظمَ مسح للسماء بمساحة بضعة آلاف من الكيلومترات. هذا أمر ممكن، ويوجد مثله بالفعل في الأرض في مجال الراديو، بيد أنَّ تحديد وجود الحياة بصريا سيتطلب بالتأكيد رحلات إلى عين المكان، وهذا لن يتم قبل نهاية القرن الحالي.

 

إبستيمة – تحليل لبيولوجيا الفضاء

لقد استطردتُ في المقدمة، مع أنّ ما يجمعنا هنا هو الإبستيمولوجيا وليس القيام بالتعميم والتبسيط. لذا، أود العودة إلى ما يشكل، في آن واحد، موضوع هذا اليوم الدراسي، وإلى الأهم، بالنظر إلى أن نزعة علمية من أسلوب معين من القرن XX هي التي تمسك بخيوط هذا الموضوع: تأمل فلسفي في بيولوجيا الفضاء. لقد خضنا خلال هذا اليوم في عدد من المجالات انطلقت من مفهوم الحياة، وعرجت على أصلها للتوقف عند وجود حياة خارج الأرض. من الجدير بالذكر أن أي فيلسوف، بعد هيغل Hegel وشوبنهاور  Schopenhauer وشيلينغ Schelling، لم يتناول قضايا بيولوجيا الفضاء (أي ما كان يطلق عليه قبل القرن العشرين اسم تعدد العوالم)، على الأقل في حدود ما أعلم، في حين نجد عند الإغريق غزارة من التكهنات حول هذا الموضوع[6]. ويقودني هذا التخلي المؤسف إلى توجيه إشارة لا تخلو من اتهام للفلاسفة: إذا كانوا قد تركوا المجال مفتوحا للتقنيين وحدهم، فليس من حقهم أن يأتوا في وقت لاحق ليشكوا من كوننا نعيش في عصر تهيمن عليه التقنية.

سأحاول التأمل في السؤالين التاليين: ما هي الحياة؟ ماذا يمكن تعني عبارة «أصل الحياة»؟

بخصوص مسألة جوهر الحياة، أود أن أشير في عجالة، ما دام الوقت لا يسمح لي بتطوير هذه الفكرة، إلى مصادفة مثيرة جدا للاهتمام، وهي تزامن هذا السؤال في سياق بيولوجيا الفضاء وقضايا البيولوجيا الأخلاقية التي بلغت مستويات مأساوية لا نشك فيها عموما، والتي لا نشاهد منها اليوم سوى طلائعها الأولى[7]. سيكون من المفيد أن نعمق في المستقبل القريب نقط التقاء هذين التيارين، وأنا متأكد من أنَّ هذا يمكن أن يكون مثمرا جدا للمجالين.

ستحاول مقاربتي أن تكون الأكثر علمية قدر الإمكان، بمعنى أن تستند إلى التجربة بالمعنى الظاهراتي للاصطلاح وهو الممارسة. لا يمكن إغفال ملاحظة أن كل ممارسة تستدعي دائما أداة معينة لا يمكن التخلص منها. تعلمون أن الفلكيين يسخرون عادة من رجل الشارع الذي لازال يعتقد، بعد ثلاثة قرون عن كوبرنيك Copernic، أن الشمس تدور حول الأرض. ولكن للأسف فالفلاسفة أيضا يأسفون لكون معظم زملائهم الفيزيائيين والكيميائيين والبيولوجيين ما زالوا، بعد قرنين عن كانط Kant، يعتقدون أن المفاهيم تستمد من التجارب التي تسبقها. والأسوأ من ذلك أنهم لم يتخلوا عن فكرة وجود واقع في حد ذاته، في حين أظهرت ميكانيكا الكم أن النسق لا يتوفر على خاصية في حد ذاته (الزوج نسق + جهاز قياس هو وحده الذي يتوفر على زخم كمية للتحرك أو موقع مثلا). وأود أن ألخص هذه الوضعية على النحو التالي: إن مظاهر أدواتنا المندمجة في خطاب مَّا هي وحدها التي تملك قيمة علمية. وسأطبق هذا النهج على مفهوم الحياة وأصلها بوضع هذه الأداة التي ذكرتُ في مكانها الصحيح، وهو اللغة. لقد أمدتكم العديد من العروض السابقة بمعلومات واقعية وواضحة جدا، بيد أني لست في موقف مماثل، لأنه يتعين عليَّ في العشرين دقيقة المتبقاة، من محاضرتي هذه، أن أعرض عليكم طرقا جديدة للتفكير استغرق توضيحُها ثمانين عاما على الأقل. إضافة إلى ذلك، فأنا اصطدم بالحكم المسبق التالي: على الرغم من وجود ميكانيكا الكمِّ والنسبية، فالحس السليم وحده كاف لتناول مثل هذه القضايا. أنا إلى حد ما في وضعية عالم الرياضيات الذي لا يمكنه أن يقدم سوى نظريات دون أن يملك وقتا لعرض الاستدلالات. لن تكون مقاربتي إبستيمولوجية على نحو دقيق. أولا، هناك خطر يترصد الإبستيمولوجيين وهو أن يصيروا استراتيجيي غرفة، فيأتون بعد نهاية معركة مَّا لكي يشرحوا لكم لماذا وقعت بتلك الطريقة ولم تتم بطريقة أخرى، شأنهم في ذلك – تقريبا – شأن هؤلاء الاقتصاديين الذين يفسرون لكم في وقت لاحق أسباب الظرفية الاقتصادية. بيد أنني لن أنطلق من أسس فلسفية بالخصوص، فالإبستيمولوجيا تظل كثيرا في السطح، بمعنى أنها تنسى الأسس العاطفية للصروح النظرية. أيضا، ستكون مقاربتي أقل سلبية وأقل وصفية، ولكن أكثر التزاما أيضا. وبذلك سأقدم مقاربة بما أسميه إبستيمة – التحليل (أو إطار معرفة – التحليل).

ما هي إبستيمة – التحليل؟ هي فرع من التحليل النفسي التطبيقي، يطبق مفاهيم التحليل النفسي على الإبستيمي، أي على بناء النظريات. إبستيمة – التحليل هي بالنسبة للإبستيمولوجيا، على نحو ما، ما هو النقد النفسي بالنسبة للنقد الأدبي الكلاسيكي. والتحليل النفسي بالطبع كلمة تغطي نظريات مختلفة وممارسات من جميع الأنواع، تمضي من علم نفس الأعماق اليونغي (نسبة إلى كارل جوستاف يونغ Carles Gustave Jung) إلى تقنيات التكيف الاجتماعي الأمريكية. أعني بالتحليل النفسي التحليلَ النفسيَّ الفرويديَّ الكلاسيكي الذي عدَّله لاكان Lacan بالتشديد على اللغة والرمزي. يمكن القول إنَّ الأمر في هذه الحالة يتعلق كذلك بتفسيراتٍ بَعدية للظواهر. وسأبيِّنُ أن لإبستيمة – التحليل على العكس دورا أكثر نشاطا من الإبستيمولوجيا، وأنها تعدِّلُ موضوعَ كلامها. وعلى نحو ما، فإبستيمة – التحليل هي مثل التحليل النفسي من حيث إنها علاج موجَّه لإشفاء الأفكار الساذجة.

وسأقتصر على مفهومين رئيسيين فيها، على الرغم من أنها تتوفر على مصطلحات أخرى كثيرة.

علاقة الموضوع

نقطة البداية هي المفهوم المركزي المتمثل في علاقة الموضوع، وهو مفهوم معقَّد وشاهد على أنه لا توجد دائما ذرات للتفكير من شأنها أن تكون نوعا من المفاهيم الأولية أو النواتية التي يمكننا انطلاقا منها أن نبني صرحا من المفاهيم الأكثر تعقيدا أو الجزيئية على نحو ما. وكما هو الحال في المنطق الشكلي الكلاسيكي، فإنه لا وجود لطبقة تشكل طبقة لمفاهيم أولية ثم طبقة لمستوى أعلى تشكل المفاهيم المشتقة بتوليفات بين المفاهيم الأولية. لهذا السبب أطلق على هذا النوع من التفكير «الفكر اللا تراتبي»، وسأوضحه ببعض الأمثلة. في علاقة الموضوع لا يوجد موضوع مستقل عن العلاقة، إذ علاقة الموضوع تخلق موضوعها، وهذا الخلق هو في حد ذاته معقد. علاقة الموضوع تعوض مصطلح الغريزة الفرويدي. فعند فرويد كان للغريزة أيضا موضوع، ولكن كان لها هدف كذلك. وقد أدخل ضمن الغرائز غريزة رغبة المعرفة ذات الأصول الجنسية[8] التي تتكون من مفاهيم مختلفة. وهذا ما سنهتم به هنا. ويعتبر الإدراك من بين الأمثلة الجيدة العالمية. ففي بداية الإدراك هناك، في التصور الشائع، الموضوع المُدرَك. ولكن هذا الانطلاق ليس سوى منطلق بَعْدي.

ولإكمال وصف علاقة الموضوع، يجب إدخال مفهوم آخر هو التأثيرُ البَعْدي[9].

التأثير البَعدي

نصل إلى قلب إيبستيمة – التحليل. ابتُكِرَ مفهوم التأثير البعدي في القرن العشرين، ولكن يتعين انتظار عدة سنوات كي يشق طريقه إلى ما يسمى بالثقافة. ونقطة البداية هي تأمل في اللغة. يعتقد أهل العلوم الصلبة أن اللغة شفرة جامدة قائمة بين الشيء والعلامة (كلمة في حالة اللغة الطبيعية). وهذا الاعتقاد الساذج هو ما يجب التخلص منه. لقد أقام اللغويون منذ وقت طويل تمييزا بين نوعين من الكلمات: الإخبارية التي تنتمي فعلا إلى شفرة، والإنجازية (أو الأدائية). والأدائية هي أمثلة على مفهوم أدخله ج. أوستين J. Austin في أفعال الكلام[10]. والإنجازي لا يسمي واقعا خارجا عن ذاته، ولكن يشير إلى إنتاجه الخاص به أو إلى ملفوظيته. والمثال الكلاسيكي هو مثال رئيس الاجتماع الذي يقول: «افتتحت الجلسة». فهذه الجملة لا تشير إلى واقع موضوعي موجود بصورة مستقلة وخارج ذاته: إنها تخلق ما تشير إليه وتشير إلى ما تخلقه. لاحظوا، خلال ذلك، أنه بهذا المفهوم لفعل الكلام يمكننا توضيح الاكتشاف الرئيسي للفيزيائي جون بيل John Bell الذي برهن رياضيا على أنَّ الفرضية القائلة بامتلاك الكائن الكمي لخاصيات في ذاته قبل قياسها هي فرضية تتناقض مع تجربة المختبر. بهذا المعنى يكون فعلُ القياس فعلَ كلام[11]. من هنا، وباختصار ضخم يفرضه ضيق الوقت، أصلُ إلى الاستنتاج الذي توصَّل إليه التفكير في العقود الأخيرة وهو أنَّ ما من كلمة إلا وهي أدائية، ولا وجود إطلاقا للتعبير الإخباري الخالص. بعبارة أخرى، الكلمة تخلق ما تشير إليه وتشير إلى ما تخلقه. إنها تخلقه انطلاقا من علاقة الموضوع التي يمكن أن تكون تصورا أو إدراكا في أغلب الأحيان. والتصور هو فريد من نوعه. اللغة هي التي تبني الموضوع من خلال فصله عن التصور الأصلي. هذا ما أطلب منكم تصديقه وقبوله. ولكن اللغة أيضا تعرض نفسها دائما بوصفها تشير إلى حقيقة واقعية سابقة عن نفسها رغم أن هذه الحقيقة الواقعية هي لاحقة لها بشكل صارم. ومن طبيعة كل ملفوظ أنه ينقسم إلى موضوع ومحمول، مع وجود بعض الاستثناءات. وهنا يوجد الفخ، لأن هذه البنية هي التي تبدو تعطي للموضوع ثباتا وتماسكا. ثمة ما يشبه تناقضا بين البنية النحوية موضوع – محمول التي تجسد الموضوع وتوضحه واشتغال اللغة نفسها التي هي شرط أساسي للموضوع. وعدم تحليل هذا التناقض هو ما يولِّدُ أوهاما وفخاخا وأشكالا من سوء الفهم. وبذلك، فالتأثير البعدي يُشير إلى هذه الآلية أو الحالة التي تقوم الكلمة بواسطتها بخلق الشيء في لحظة أولى، ولكنها في لحظة ثانية تشير إليه باعتباره خارجا عن نفسه أو سابقا أو عن تلفظه. وبذلك يمكن القول إن الشيء هو شيء بَعدي. وقد يُظنُّ أن الأمر يتعلق بمنطق حلقة مفرغة لا يأتي بأي شيء ملموس. وهذا يعود شيئا ما إلى الوصف الأدبي شيئا ما الذي اكتفيتُ بالقيام به نظرا لضيق الوقت. ولكن هذا المنطق أمكن التعبير عنه رياضيا بالخروج من منطق المحمولات ومن رياضيات المجموعات[12]. وينبغي أن يضاف إلى ذلك أن الشيء ينفصل بعملية رمزية عن الكلمة التي تخلقه: الرمز في هذه الحالة هو هذا البعد الذي يعطي للكلمة قيمة المفهوم مع ما يدخله هذا المفهوم من تعميم وتجريد. عندما أقول «هذه المائدة»، فإني أقوم في الوقت نفسه بخلق المائدة وأقول بانتمائها إلى مقولة مسبقة هي المائدة. ويترتب على ذلك أن الملفوظات ليست كلها نبوءات تتحقق من تلقاء نفسها، لأن الأشياء المبنية أو صفاتها بالأحرى تخضع، باعتبارها رمزية، لقوانين المنطق التي تمنع بناء أي شيء وما اتفق. في هذا المنظور، يكونُ المصدر الجسدي للغرائز والإدراكات والتصورات مصدر تأثير بعدي يمكننا تقريبه مما يطلق عليه لابلانش Laplanche اسم الموضوع-المصدر[13] مادام هو الموضوع المشيَّد. مع هذين المفهومين: علاقة الموضوع والتأثير البعدي، يمكن بالفعل المضي بعيدا في تطبيقاتهما على بيولوجيا الفضاء.

التطبيقات

أي نتائج يمكن استخلاصها من هذه التحليلات لفائدة بيولوجيا الفضاء؟ هل تغير استراتيجيات البحث عن الحياة في الكون؟ الجواب هو نعم ولا. لا، لأنها لا تؤثر في تفاصيل التجارب والملاحظات. ونعم، لأنها يجب أن توجه اختيار التجارب وبالخصوص تفسيراتها، أي ترجمتها إلى لغة طبيعية.

مفهوم الحياة

يتمُّ التفكير في الحياة من لدن الأحياء الذين يتصورون أنفسهم على هذا النحو. على هذا النحو بمعنى أن بواعث ديناميكية، مثل العواطف والأمل، هي التي تحركهم. وباختصار، فالحي كائن راغب. زيادة على ذلك، فالأحياء يمنحون طابع الحي للكائنات متى استطاعوا أن يسقطوا عليها قدراتهم على الرغبة وأن يبادلوها وجدانات هي أيضا علاقات موضوع. وأول حي يلقاه الإنسانُ هو أمه التي يرتبط معها بمبادلات تشكل النموذج العتيق لعلاقة الموضوع. وعليه، فمفهوم الحي هو سيكولوجي حصرا وليس بدائيا فقط. وللتعرف على كائن حي، فمفاهيم فيزيائية مثل التنظيم الذاتي مع التأثير أو عدم التأثير على البيئة، مع الإنجاب أو بدون إنجاب، مع أخطاء في الاستنساخ أو بدون أخطاء، تلك المفاهيم لا تحيط بماهية موضوع حديثها. جميع هذه المفاهيم توجد في العالم المعدني، من ذلك، على سبيل المثال، النجومُ التي لا أحد يريد تسميتها بكائنات حية. والحياة في الفضاء ستكون بالأحرى تتكوَّن من تصوراتنا وإدراكاتنا التي على أساسها ستُسقط مختلف سجلاتنا الرمزية صفة الحي. هذا البناء يشتمل على إسقاط. ولتوضيح قولي سآخذ مثال آلة تتكون من أجهزة استشعار ومحركات، وتتشكل مورفولوجيتها من أربعة أرجل ورأس وعينين. سوف لن تميلوا علميا إلى اعتبارها حية، ومع ذلك لن تستطيعوا ألا تتحدثوا عنها كما تتكلمون عن حيوان. وللتقدم بهذا الطرح قليلا، من الخطأ أن نقول إن الحياة تتميز بالتعقيد complexité، ذلك أن التركيبية complexité هي التحليل الفيزيائي للحياة، والأمران مختلفان. يمكن الحصول مع كل كائن على أنواع عديدة من العلاقات: علاقات رمزية (على أساس اللغة الطبيعية)، وعلاقات قائمة على التحليل المادي، أي مستندة إلى مفاهيم فيزيائية بسيطة بالضرورة. وبعبارات الإبستيمة – التحليلية، فالحياة هي علاقة مع الموضوع. لا وجود لكائنات حية، إذ ليس هناك سوى علاقات حية مع كائنات حية. يمكننا صياغة الأشياء بشكل مختلف، فنطرح السؤال التالي: منذ ظهور البيولوجيا الجزيئية بالخصوص ونجاحها، تمَّ مماهاة الحياة مع مُرَكَّب بالغ التشعب hypercomplexe. إنها شكل خاص من التركيبية complexité. ويمكن التساؤل عما إذا كانت ستكون دائما هكذا، بمعنى أنها اتجاه لا رجعة فيه. وأود فقط أن أذكر في هذا الصدد بأن الفيزياء بصدد القيام بحركة معكوسة تماما في أحد مجالاتها الأكثر جوهرية، وهو ميكانيكا الكم. في هذا الحقل المعرفي من المستحيل تماما إعادة بناء جهاز للقياس (عياني مكبَّر بالضرورة) انطلاقا من مكوِّنات أولية، أي ذرية أو جسيمية. هذا في رأيي هو أحد التطورات الفكرية الأكثر أهمية التي عرفها العلم. وللتلخيص: الحياة = وجدان = تماهي. ومن ثمة يكون المتخيل هو هذه المماهاة للذات مع الكائنات التي تبنيها. وكلمة متخيل هنا تأتي من صورة الأنا التي بُنيت في مرحلة المرآة المعروفة جدا[14]. ومن هذا المنطلق، فمعاملة كائن حي مَّا باعتباره حيا هي عملية تدخل في نطاق المتخيل.

ليس في نيتي «قتل» المتخيَّل (فنحن بحاجة إليه لكي نعيش كما يتضح من حاجتنا إلى الأدب الروائي أو السينما)، بل وضعه في مكانه، أي تحديده كما هو، والعمل على نحو لا ننسى معه أنه يظل بناء وتشييدا. وكما قلت في مقدمة هذا العرض، سوف يكون هناك تقارب بين القضايا المُتناولة هنا وأخلاقيات البيولوجيا. في سياق بيولوجيا الفضاء، سنجد أنفسنا مضطرين طبعا إلى إطلاق اسم أخلاقيات بيولوجيا الفضاء على هذا التخصص الجديد الذي سيكون موضوعه التفكير في الطابع الحي – أو اللاَّحي – للبنيات المُكتشفة. أي دروس يمكن استخلاصها منها من أجل البحث عن الحياة في الكواكب الموجودة خارج النظام الشمسي؟ أوَّلا إذا كان جوهر الحياة لا يكمن في خصائص فيزيائية موضوعية (كبنية جزيئية، على سبيل المثال)، فإن اكتشاف بصمات بيولوجية مثل خطوط الأكسجين الطيفية لن يشكل في حد ذاته اكتشافا للحياة. وأود في هذا الصدد أن أفتح قوسا منهجيا.

لقد تمَّ إظهار أنَّ عملية إنتاج الأكسجين بكميات غزيرة على كوكب ما لا تعود بالتأكيد إلى عمليات كيميائية بسيطة مثل التحلل الضوئي المائي المباشر. يحتاج الأمر على الأرجح إلى كيمياء مركَّبة. على الأرض الكيمياء الطبيعية الوحيدة (أي التي لا تسببها تقنيات الإنسان) المنتجة للأكسجين هي التمثيل الضوئي بواسطة خلايا نباتية تستنسخ نفسها. ولكن في الوقت الراهن لا شيء يضمن أن كل عملية مركبة منتجة للأكسجين ترتبط بالضرورة بعملية استنساخ. ومن ثمة، إذا تبنينا الاستنساخ تعريفا للحياة فإنتاج الأكسجين لن يكون دليلا كافيا في إطار التصور نفسه الذي يُضفي صبغة الموضوعية على الحياة واكتشافها. في الواقع، لن يكون اكتشاف حياة أخرى حقيقة موضوعية، بل سينتج عن حُكم ذاتي بالضرورة سيلعب فيه التماهي دورا هاما. وهو لن ينطبق إلا بشكل ضعيف على خطوط الأكسجين، وسينطبق أكثر من ذلك قليلا على الكلوروفيل، ولكنه سيبلغ كامل ذروته ومعناه إذا تمَّ تحديد إشارات خاصة جدا، أو أشكالا ماكروسكوبية في الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية. ولا شك أنه يجب أن يُضاف إلى التماهي المتعلق ببيولوجيا الفضاء بُعدٌ للغيرية والتجديد. على المرء أن يكون قادرا على التعرف على حياة ليست متطابقة مع الحياة الأرضية. وهنا ستكونُ الذاتية وحتى التماهي هامين جدا. وسيؤول الأمر إلى إطلاق صفة حياة على الظواهر التي اعتدنا على اعتبارها حية في الحياة الأرضية. ولتوضيح طرحي هذا، سأجري مقارنة بالرسم التجريدي. لقد ظل الرسم لوقت طويل يقتصر على محاكاة الواقع إلى حدود اللحظة التي ابتكر فيها أشكالا من العدم. ربما سيكون الأمر نفسه مع أشكال بديلة للحياة. في السجل الجمالي نفسه، يمكن أيضا أن نقول إنَّ الحياة، مثلها مثل الجمَال الذي لا يشيرُ إلى صفة موضوعية لكائن ما بل إلى شعور لدى المشاهد، لا تشير إلى صفة موضوعية لـ «كائن حي»، بل تؤثر على من يتأملها.

الحياة لا أصل لها

يفترض مفهوم أصل الحياة فكرةَ الزَّمن، إذ هو الذي يتيح رؤيتها باعتبارها نشأة. وهذا حاضر في اشتقاق الكلمة: ex-mergence، بمعنى الخروج من الغمر mersion، ونقف في الكلمة أيضا على مفهوم ديناميكي. بيد أننا نصطدم هنا بسوء فهم كبير جدا. فالمعامل T في الفيزياء وغيرها من العلوم، كالكيمياء والبيولوجيا، يقيس فواصل من الزمن بكرونومترات، بيد أن هذه الفواصل ليست هي الزمن. هذه الفكرة ليست جديدة، فقد برهن عليها برغسون Bergson وهايدغر Heidegger، على سبيل المثال، على نطاق واسع، كما برهن عليها كانط بطريقة متكتمة جدا. والنتيجة أنَّ إطلاق اسم الزمن على هذا القياس بكرونومترات هو خطأ إبستيمولوجي أساسي يعود إلى قرون خلت ولا زال متواصلا إلى اليوم. لهذا المقياس وجاهته: فهو يستند إلى مراقبة مسارات نقاط مادية، مسارات يُستخدَمُ [هذا المقياس] لتحديدها بمقاييس. ولكن المقياس ليس هو الزمن الذي هو الانتقال من قيمة إلى أخرى من قيم المقياس. لا شيء من هذا يصدق على الفضاء. وهذا الانتقال ليس له أي وضع اعتباري ولا حق مواطنة في علوم المختبر، لا يُمثَّلُ بأي مفهوم ولا يشكل موضوعا لأي قياس أو تنظير في علوم الطبيعة.

أتحدى أيا كان أن يقدم أقل بروتوكول تجريبي، أقل ملفوظ تقني صارم يمكن أن يدخل فيه هذا الانتقال. الأداة الوحيدة التي تجعل هذا الانتقال موجودا هي اللغة الطبيعية. ويترتب على ذلك أنّ العبارة «ثلاث مليارات من السنوات» هي مجرد هراء. وإذا كان من الصحيح أننا نستطيع أن نستقرئ رياضيا المتغير T لكي نمنحه القمية -3 مليار سنة فإن الـ «قبل = il ya» التي تنص على وجود سابق ek-sistence، وظهور معنى، وصيغة دالة، هي التي ليس لها معنى. «قبل عشر سنوات» لها معنى لأن هناك ذاكرة ترتبط بها. والخداع الكبير هو أن تُدمَجَ في ذاكرة من هذا النوع كائناتٌ تُسمَّى خطأ بآثار، كالأحفوريات على سبيل المثال. وما يُسمى بالآثار هو ليس آثار ماض كان موجودا في حد ذاته، بل هو كائنات راهنة نكوِّنُ انطلاقا منها ماضٍ بعدي. والفكرة المركزية لنموذج بناء الماضي هي فكرة خدعة نرجسية متخيَّلة شأنها في ذلك شأن صورة الذات التي تُبنى في مرحلة المرآة. تتماهى الأنا مع هذا البناء المتخيل للماضي. لنواصل إصرارنا: ما هو وهمٌ أو خدعة ليسَ هو أنا ماضٍ، بل هو الزمن الماضي نفسه. في حين، وكما بيَّن هايدغر ذلك بطريقة مقنعة، ترتبط الكينونة دائما بالحضور بما في ذلك في البعد الزمني لهذه الكلمة[15]، وبالتالي لا يمكننا متابعته عندما يعرف الماضي بأنه «الكف» عن أن يكون ماضيا.

بهذا المعنى لم يُوجد الماضي أبدا. عندما تقول الذات «أنا» في الماضي فهي تحرِّكُ جهازا مماثلا للتماهي في المرأة، إذ يتم تعويض سطح المرآة العاكس بـ «آثار» (تُفسَّرُ على هذا النحو) ممزوجة بالشكل النحوي الماضي لأفعال اللغة. ولكن من الواضح جيدا أن ما يُبنى على هذا النحو ليسَ هو «أنا ماض» بل هو الزمن (الماضي) نفسه. ينبغي أيضا عكس الترتيب المعتاد بين الأثر والماضي. ليس الماضي هو الذي يترك آثارا. ما يتم تفسيره باعتباره آثارا هو دوال لا زالت راهنة ولا تستعيد ماض ما بل تبنيه. أنا لا أنكر أن هناك سعيا ورغبة أصول قوية جدا. هذه حقيقة سيكولوجية[16]. ولكن هذه الرغبة لا تبرر وجودَ موضوعها أكثر مما لا يبرر علم التنجيم رغبة الولادة في ظل نجمة جيدة.

ختاما، فللزمن أصل كرونولوجي قابل للتعيين؛ له على الأكثر جذرٌ واحدٌ بعدي ومعاصر لأصل اللغة بما أنه لا وجود لزمن بدون لغة. لذلك لا يمكن أن يكون للحياة أصل. والنهج المقترح هنا في الأساس يسير على عكس إدخال المنظور في القرن XVم: فالمنظور يجعل المرء يشاهد بُعدا ثالثا انطلاقا من خطوط مرسومة على سطح ثنائي الأبعاد. يتعلق الأمر هنا بفكّ المنظور الزمني الذي يجعل الرؤية خاطئة، مثل خادع للعين، وهو عمق تاريخي حيثُ لا يوجد سوى سطح (يتوفر بالتأكيد على سُمك) حاضر. وإذا تمسكنا بهذا للإجابة عن السؤال: «متى بدأ الزمن؟» لتحديد بدايته، فالجواب الوحيد المشروع علميا هو أنَّ الزَّمن قد بدأ مع اللغة.

جان شنيدر

 

 

[1] السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في الفراغ، خلال عام كامل، وتقدر بحوالي 10000 مليار كيلومتر. علما بأن هذه السرعة بالثانية تصل 300000 كلم في جميع الاتجاهات، ويعتبر إنشتاين سرعة الضوء هي الثابت الوحيد في هذا الكون. (المترجم).

[2] SETI: اختصار عبارة Search for Extra-Terrestrial Intelligence: البحث عن وجود ذكاء خارج كوكب الأرض، وهو اسم معهد يوجد مكتبه الرئيسي في ماونتن بولاية كاليفونيا، ويضطلع بمهمةғاستكشاف وفهم وشرح أصل وطبيعة وانتشار الحياة الكون». من أجل ذلك، يشجع المعهد عدة برامج، بعضها يدعو إلى استخدام التلسكوبات والتلسكوبات الراديوية للبحث عن إشارات تدل على وجود مخلوقات ذكية خارج كوكب الأرض، ويركز بعضها الآخر على دراسة الحياة في الكون، واكتشاف الكواكب الخارجية، والحياة على المريخ، وغيرها من كواكب النظام الشمسي، ويعمل المعهد مع وكالة النازا وبعض المراصد الفلكية لأداء مهامه. (المترجم).

[3] J. Schneider La “mise en intrigue” des origines. in Sur les traces du vivant: de la Terre aux étoiles. F. Raulin-Cerceau, P. Léna et J. Schneider, eds, Le Pommier, 2002; J. Schneider “La nature n’a pas d’histoire, le Big Bang n’a jamais eu lieu”, in Topique, no. 73, 2000.

[4] CoRoT: تلسكوب فضائي صمم لدراسة البنية الداخلية للنجوم والبحث عن الكواكب الخارجية، بما فيها خارج المجموعة الشمسية، تمَّ إطلاقه في عام 2006 وإيقاف مهمته في 2014، بعدما أنجز العديد من الاكتشافات. (م).

[5] مشروع تلسكوب فضائي تابع لوكالة ناسا يهدف إلى اكتشاف كواكب خارجية شبيهة بالأرض، وذلك بدراسة تكوين الكواكب – منذ تطوير أقراص الغبار والغاز حول النجوم المشكلة حديثًا – وقياس حجم ودرجة الحرارة والتكوين الجوي وخصائص أخرى للكواكب الأرضية البعيدة. حظي المشروع بالموافقة في عام 2004، وتمَّ التخطيط لتشغليه بين 2015 و2020، لكن تم إلغاؤه في عام 2007. (م)

[6] Epicure in Lettre à Hérodote. in “Lettres et Maximes”. PUF.

[7] J. Schneider, «Pour une biocybernéthique» in Colloque Prospective et évaluation de la science et de la technologie, Commission Eurepéenne (Programme FAST), Bruxelles, 11 Juin 1993.

[8] Pulsion épistémophilique: رغبة المعرفة التي قد تكون، حسب التحليل النفسي، شكلا ملتويا للغرائز الجنسية أصلهُ سؤال حول طبيعة الجنسانية. (م).

[9] التأثير البعدي (أو اللاحق أو المؤجل l’après-coup): يشيع استخدام فرويد لهذا المصطلح في علاقته بمفهومه عن الزمانية والسببية النفسيين: إذ تنقَّحُ التجارب، والانطباعات والآثار الذكْروية لاحقا من التجارب الجديدة، ومن الحبو إلى درجة أخرى من النمو. وقد يُسبغ عليها عندها معنى جديدا وفعالية نفسية في آن معا». جان لابلانش وج.ب. بونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة الدكتور مصطفى حجازي، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة 2، 1987، ص. 138 (م).

[10] J. Austin, Quand dire c’est faire, Le Seuil.

[11] J. Schneider, «The Now, Relativity Theory and Quantum Mechanics», in Time, Now and Quantum Mechanics (M. Bitbol and E. Ruhnau Eds. ISBN 2-86332-152-8 Editions Frontieres, BP 33, 91192 Gif/Yvette Cedex, France).1994 (Figures à venir) ; J. Schneider, «Time and the Mind/Body Problem: a Quantum Perspective», American Imago, 54, 307, 1997. (version html).

[12] J. Schneider, «La non-stratification» in La psychanalyse et la reforme de l’entendement, R. Lew Ed. Editions Lysimaque/Collège International de Philosophie, p. 147, 1997.

[13] J. Laplanche, «La pulsion et son objet«, in La révolution copernicienne inachevée”, Aubier 1992.

[14] J. Lacan, Ecrits, Le Seuil 1966, p. 93.

[15] M. Heidegger, «Temps et Etre», in Questions IV, Gallimard.

[16] P. Aulagnier, «Un discours à la place de l’infans: (T0 – T1)», in L’apprenti historien et le maitre sorcier. Du discours identifiant au discours délirant, PUF.

السابق
مارينا مايستروتي: هل التفردية التكنولوجية طريق إلى ما بعد الإنسان؟ / ترجمة: محمد أسليـم
التالي
فرانسوا جاكـوب ما الحيــــاة؟ / ترجمة: محمد أسليـم