يبدو أنه مع كل اكتشاف جديد في عالم تكنولوجيا الاتصالات يتم إعادة طرح الأسئلة نفسها: هل نحصل على تكنولوجيات جديدة للمتخيَّل أم نغوص في مخيلة التكنولوجيا؟ أو: هل العالم الافتراضي في طريقه إلى التحول إلى واقع أم أنَّ الواقع هو الذي يسير نحو التلاشي؟ هنا لا بد من التوقف للتفكير: من يهمه أمر وجود واقع جلي (طالما أنه موجود حقا)، وقابل للتحديد على وجه التأكيد (إذا أمكننا الحديث على هذا النحو)؟ وبعبارة أخرى: من يخشى العالم الافتراضي؟
تميل تقنيات المتخيل، هذه الفئة التي يمكن أن ندرج فيها السينما والتلفزيون والإنترنت، وما إلى ذلك، على نحو متزايد إلى تعزيز متخيل للتكنولوجيا، أي فكرة عالم تهيمن عليه التكنولوجيا لدرجة خلق كائنات تعيشُ تبعية لأداة تكنولوجية معينة.
تقودنا تحليلات بوستمان[2] في هذا الاتجاه، عندما يبيِّنُ السمات الديناميكية المميزة لانتقال مجتمع يستعمل التكنولوجيا إلى مجتمع تكون فيه التكنولوجيا نفسها، على العكس، هي التي تشكله. فهو يحلل ثلاثة «أنواع من الثقافة»:
في النوع الأوَّل، يتم اختراع أدوات واستخدامه لحل مشكلة معينة وملحة، أو للحفاظ على العالم الرمزي للفن والسياسة والدين أو الطقوس. وعلى أية حال، فهذه الأدوات لا تمسُّ كرامة الإنسان مباشرة أو سلامة الثقافة المحتضنة لهذه الابتكارات.
والنوع الثاني تكنوقراطي، وفيه لا يتم إدماج الأدوات في الثقافة، بل تهاجم هذه الأدوات الثقافة مباشرة، إذ تسعى إلى أن تصير هي الثقافة. نتيجة لذلك، فالتقاليد والعادات الاجتماعية والأساطير والسياسة والأديان تقاتل في سبيل إنقاذ حياتها والهيمنة. في هذا السياق، يتعايش الجانب التكنولوجي مع التقاليد في توتر معقد: تعمِّرُ التقاليد رغم تفوق التكنولوجيا.
أما ثالث مراحل هذا التطور الثقافي المحلَّل، فيطلق عليه اصطلاح التكنوبوليا Technopoly (الذي يعني سيطرة التكنولوجيا على الثقافة والحضارة)، ويتمثل في خضوع سائر أشكال الحياة الثقافية لسيادة التقنية والتكنولوجيا. يتعلق الأمر هنا بنظام يبرر نفسه ذاتيا وينتج نفسه ذاتيا، وفيه تسود التكنولوجيا على المؤسسات والحياة الاجتماعية. لا يتعلق الأمر هنا فقط بدولة ثقافية، بل وكذلك بحالة نفسية. يرى ن. بوستمان أن التكنوبوليا[3] technopolis هي تأليه التكنولوجيا، بمعنى أنَّ الثقافة هنا لكي توجَد فهي تحتاجُ إلى الحصول على نوع من الترخيص من لدن التكنولوجيا. تجد الثقافة تحققها نفسه في التكنولوجيا وتتلقى أوامر من التكنولوجيا. يتعلق الأمر بعالم يحلّ التطور التكنولوجي فيه محلَّ التطور البشري. يقول لنا المؤلف: نحن نعيش في عالم تمَّ فيه استبدال فكرة الرفاهية نفسها بنتائج الفحص بالأشعة. نشعر بأننا بخير عندما يقول لنا الجهاز التكنولوجي أننا على ما يُرام!
يرافق هذه الجدلية بين الثقافة والتكنولوجيا المتخيلُ الذي يستكشف العلاقات بين الجسد والتكنولوجيا. فبعض الفنانين يدفعون رؤيتهم إلى حد إظهار كيف أنَّ جسدنا يستحق «إعادة التطوير» تبعا للمهام التي نفرضها على أنفسنا أو يفرضها المجتمع علينا. وتعتبر أداءات الفنان الأسترالي سطيلارك[4] مضيئة في هذا الصدد. فهو يرى[5] أننا نعيش في عصر مشبع بالمعلومات، ولم يعد المهم هو حرية الأفكار، بل حرية الشكل، أي حرية تعديل وتحويل الجسد الذي عفا عليه الزمن وصار من الماضي. لا يستطيع الإنسان مواجهة المعلومات المعقدة والمتنوعة التي يُراكمها في حياته، لأنه مُجهَّز بيولوجيا بشكل شيء. في هذا السياق، تكون حرية الفرد الأساسية هي حرية تحديد مصير حمضه النووي الوراثي، إذ يصير التحول البيولوجي نتيجة اختيار وليس نتيجة للصدفة. لم يعد الأمر يتعلق بإدامة النوع بواسطة الإنجاب والتوالد، بل بتطوير الفرد، أي بإعادة تصميمه. تفقد علاقة الرجل-المرأة أهميتها لفائدة الواجهة إنسان-آلة. لم يعد هناك أي معنى لاعتبار الجسد مكانا لما هو نفسي واجتماعي، فهو بالأحرى بنية للتحكم والتعديل. ويعني التدخل في هندسة الجسد توسيع وعيه في العالم. وتدْخلُ التكنولوجيات البيولوجية المتوافقة والمصغَّرة في الجسد بحيثُ لم تعد التكنولوجيا تضاف إليه بل تثبَّتُ فيه: فهي تتحول من وعاء إلى مُكوِّن، وعلى هذا النحو فهي لديها القدرة على تقسيم النوع البشري. لم يعد للمرء أي ميزة في أن يظل إنسانا أو يتطور بوصفه نوعا، لأن التطور ينتهي عندما تغزو التكنولوجيا الجسد. ثم يخلص الفنان إلى أن ما يهم اليوم هو الفصل جسد- نوع وليس جسد-روح، وبذلك يصير الجسد مادة حقيقية للهندسة والتصميم.
بينما تحول الفنانة الفرنسية أورلان[6] جسدها وتجعل من كل تدخل جراحي عملا فنيا يندرجُ في فن الأداء ويتم نقله بالبث الحي[7]. تحقق البحوث المتعلقة بالتفاعل إنسان- آلة تقدما بلغ حدّ زرع رقيقة صغيرة في ساعد شخص تمكِّنُه من التحكم على نحو أفضل في بيئته والتفاعل معها. في هذا الصدد، يعرف كيفن وارويك[8] نفسه بأنه أول سايبورغ حقيقي من حيث أنَّ هذه الشريحة المعدنية الصغيرة المزروعة تحت جلد ذراعه، والتي لا يتجاوز طولها سنتمترين، تفتح له الأبواب عندما يمر، وتشغل حاسوبه عندما يقترب منه، وتجعل هاتفه يتعرف عليه عندما يكون على مقربة منه، فيقرأ عليه الرسائل بصوت عال. وفي انتظار أن تتمكن رقاقة من التحاور مباشرة مع دماغنا، أو في انتظار السنوات القليلة التي تفصلنا عن ظهور رقاقة صغيرة تقوم بتعديل درجة حرارة البيت وصوت الموسيقى، فضلا عن حفظ سائر المعلومات التي تعنينا، الصحية والضريبية والبنكية، وما إلى ذلك، نشر جيريمي ريفكين في الآونة الأخيرة كتابا يبين مخاطر هذا اللقاء بين التكنولوجيا وعلم الوراثة، لأن الإنسان (والكلام للمؤلف) يعتبر نفسه الآن إلها ويسمح لنفسه على نحو متزايد بالتلاعب بشفرة الحمض النووي، على نحو خطير، كي يبدأ شكلا جديدا من التصميم، هو تصميم النوع البشري[9].
كانت السينما مهووسة على الدوام بـشبح التكنولوجيا المريضة. والخيال العلمي لا يكون متفائلا أبدا تقريبا؛ فهو جزء من هذا النوع الذي يتصور مستقبلا يجتاحه الصقيع التكنولوجي. ليس من الضروري أن نذهب إلى قائمة أفلام التنبؤ بسقوط البشرية التكنولوجي. يكفي أن نذكر بجان بودريار[10] الذي يبين في تحليله لفيلم «التحطم» كيف أن التقنية تنطوي على بعد مروع وتصير تفكيكا قاتلا للجسد. لم يعد الأمر يتعلق إطلاقا بوسيط وظيفي، بل بتمديد قاتل. يختلط الجسد بالتقنية في بُعدها المتمثل في الاغتصاب والعنف. وهذا المنظور يتناقض مع وجهة النظر السيبرانية التي تعتبر أن التكنولوجيا امتداد للجسد. كذلك، قدّم ماركس وماك لوهان رؤية ذرائعية للآلات واللغة باعتبارهما امتدادات، أي توسعات مسخرة لكي تصير هي الجسد العضوي للإنسان.
وبكيفية عامة، يلتقي تشاؤم بعض الأفلام مع فكر مثقفين مستقيم تكنولوجيًا يشجبون عُزلة كائنات متروكة للدوار الذي تثيره آلات جديدة آيلة إلى تحكم ناعم في عقول الناس. يرى البعض أنَّ تكنولوجيات المتخيَّل ربما ستكون وسيلة للقضاء على المجال العام لصالح متخيَّل تكنولوجي يتكون من مستخدمين وليس من مواطنين. من المفيد مشاهدة الهوة التي تفصل بين المحللين حول الموضوع نفسه، مع أنهم جميعا يُسمَّونَ علماء.
يرى عشاق تكنولوجيات المتخيَّل الجديدة أنَّ البشرية الآن بصدد توسيع مجالها العمومي من خلال الافتراضي. تُظهر حركة الشبكات المدنية «civics networks» الحاضرة جدا كيف أن هناك أملا كبيرا في إمكانية مساعدة التكنولوجيات الجديدة للمجال الخاص وللأفراد على التواصل والتفاعل مع أجهزة السلطة، وذلك بتمكين المواطنين من تدبير الجمهورية Respublica (خير العموم أو خير الجمهور)، ولو جزئيا. فتمكين المواطنين من أداة تكنولوجية تتيح لهم أن يتصرفوا ويبدوا ردود فعل تجاه السياسات المحلية بحيث لا يستأثر بوضعها المنتخبون وحدهم، ذلك التمكين يثير شكوكا ومخاوف لدى البعض من أن يحدث الأسوأ بفعل هذه الديمقراطية المباشرة والافتراضية التي تقلصت الآن إلى وهم خادع. تحمل «مجتمعات الشبكة»، على العكس، هذا الأمل في زيادة قوة المشاركة لدى المواطنين البسطاء ومنحهم مجددا السلطة التي يستحقونها: السياسة هي التي تخدم المواطن، وليس العكس.
يرى منتقدو المتخيل التكنولوجي أننا غصنا للتو في درجة الصفر للفاعلية من خلال مفهوم كاذب للتفاعل. أما عشاق المتخيل التكنولوجي، أو التكنوطوباويون Techno-utopistes، فيرونَ أنَّ عصر الاتصالات قد حلَّ. في حين يرى آخرون أنَّ الصمت يكون أعظم وأكبر عندما يستطيع الجميع، نظريا، أن يتحدث في الوقت نفسه إلى الجميع. لذلك، يرى الأوائل أن تكنولوجيات المتخيل تعلن أخيرا تتويجَ أفضل العوالم[11]، بينما يرى الآخرون أنَّ تكنولوجيا المتخيل تقتُل الإنسان مرة أخرى باسم الاصطناعي. والنقاش مفيد جدا بالتأكيد. هل سنشهد نشأة ذكاء جماعي نتيجة تآزر عقول حقيقي، سيكون أكثر فعالية وغنى من مجرَّد حاصل جمع، أم سيكونُ الإنسان مثل «مُعاق مشحون بالتجهيزات»، بألف طرفية اصطناعية تفاعلية، وسيسيطر على العالم بواسطة أجهزة كمبيوتر وكاميرات مع خضوعه طبعا لتحكم هذا الأخ الأكبر الذي يتشكَّل أمام أعيننا؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. ولكن يمكننا أن نرى بالفعل أن التكنولوجيين اللوديين (مناهضو التقنية)[12] يكافحون ضد تطوير تكنولوجيات جديدة لمنع تطورها، أو «الإكستروبيين[13] Extropians» الذين يتجهون بالعلاقة إنسان- تكنولوجيا إلى أقصى حد مُدرجين فيه المثال النيتشوي للإنسان الأعلى ومُرتَمين في أحضان «نزعة إنسانية عابرة» بشكل لم يسبق له مثيل دافعين حدود الإنسان إلى آفاق لا مثيل لها. في هذا الخط أراد أبو «النزعة ما بعد الإنسانية» هانس مورافيك Hans Moravec تحميل دماغه في جهاز الكمبيوتر.
غذَّت هذه تكنولوجيات للمتخيل أيضا جماعة الهيبيين الشبكيين لموندو 2000 التي اقترح أعضاؤها، من خلال المزاوجة بين اتجاهات العصر الجديد والتصعلك الشبكي، محاربة الخوف البروتستاني وتجديد نشاط اللذة المتعية والجنسية بإعلان عودة ديونيزوس، تساعدهم في ذلك المخدرات الذكية وتكنولوجيا النانو.
مع التكنولوجيين المتشائمين أو التكنولوجين الطوباويين المتشائمين، أي مع العودة إلى المصادر أو إلى ما بعد الإنسانية، يتجدد الاختيار باستمرار ويتسع بتطور التكنولوجيات الجديدة وأشكال المتخيَّل التي تترتب عنها. فبعد أن حذَّر دي كوسمو Di Cosmo الـتكنولوجيين المغفلين لكي يكونوا أكثر يقظة إزاء إدخال تكنولوجيات جديدة في حياتهم[14]، يحاول التكنولوجيون الواقعيون الآن أن يقيموا شيئا من النظام لتذكير «الإنسان الذي لا قيمة له» بأن التكنولوجيا محايدة وأن وجه استخدام الإنسان لها هو الذي يحدد قيمتها. هذه أفكار ليست غنية بالضرورة، لكن من المفيد التذكير بها في الوقت الحاضر. يقولون لنا إن المعلومات ليست ضمانة للمعرفة، وأنه «لا يجب الخلط بين متعة الحصول على المعلومة وتوزيعها وبين المهمة الأصعب المتمثلة في تحويل هذه المعلومات إلى معرفة. وبغض النظر عن مدى قوة حواسيبنا، لا يجب علينا أبدا أن نستخدمها للتغلب على الوضوح والبصيرة والتفكير والحكم»[15].
ربما يجب الاختيار بين كانديد وبانجلوس. بيد أنَّ المستخدمين يظلون غير مبالين إزاء نضالات المثقفين، وهو ما يشكل في نظر المُنذرين بقدوم الأسوأ دليلا آخر على انتصار المتخيل التكنولوجي على التفكير في التكنولوجيا. ومجرَّد القيام بلقب للتعبير – تكنولوجيات المتخيل ومتخيل التكنولوجيا – يقلب إدراكات العالم الواحد. وإذن أين هو الواقع القابل للإصلاح على وجه اليقين؟ إن نتشبث بهذه الفكرة نقع في وهم الحقيقة الذي كان وراء مجد العلوم الوضعية.
ليس من الخطأ القول إنَّ وهم الحقيقة كان نتاج ظروف تكنولوجية لفترة معينة. نحن هنا داخل المفارقة التالية: التقدم التقني يجلبُ أيضا أشكالا من انعدام يقين جديدة، ولكن في الإنسانيات ربما هناك حقيقة كبرى واحدة هي عدم وجود حقيقة نهائية. ومعنى هذا أن تكنولوجيات اليوم تحرِّرُ الناس من تكنولوجيات الأمس. لقد انتقلنا من المتخيل التكنولوجي لليقين إلى المتخيل التكنولوجي للاَّ يقين، أو إلى «معارف الاطرادات المنسجمة»، كما يقول كارل بوبر، مما يعني أن المتخيَّل هو أكثر تحررا من سطوة التكنولوجي.
إذا بقينا منطقيين شيئا ما رأينا أن صعود اللايقين يناقض ثقل يقين تفاؤل ممثلي تكنولوجيات المتخيَّل. فهؤلاء يستبدلون الطوباويات السياسية والسلوكية الجماعية الفاشلة بالطوباويات التكنولوجية المتحررة جدا. وبالمثل، يُخرِّبُ اللايقينُ إيمان أطفال الأسوأ بسلبية التكنولوجيا، إذ يقعون في حنين الطوباويات القديمة ولا يقبلون فكرة إعادة التفكير في مشاريعهم المستقبلية. هناك تصير الطوباوية الثابتة رجعية. في حالة تكنولوجيا المتخيل تتم المراهنة على هروب إلى الأمام، وفي حالة متخيل التكنولوجيا يتم الهروب إلى الوراء.
ستتساءل العقول العملية: وماذا في ذلك؟ تكنولوجيات المتخيل أو متخيل التكنولوجيا: أين نحن؟ كيف نختار؟ أولا، لسنا داخلة لعبة «تفاعلية» يفرضُ الاختيار الثنائي فيها نفسه. ولمعاجلة أفضل للمشكل، يجب بالضبط الخروج من هذا الفخ. تستشهد انتقادات وسائط الاتصال بهايدغر بشكل متواصل لتقول إن التقنية لا تنتج أدوات، ولكنها تنتج عوالم تحولها تلك الأدوات. ومن ثمة تنتُجُ قدرية ما: من شأن التكنولوجيا أن تكون دائما أداة للاصطناعي ضد الطبيعي، ولكن الثقافة، بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة، تتجاوز هذا. فهي تنتج عن تدخل الإنسان فيما هو طبيعي بواسطة آليات يبتكرها لنفسه – في أسوأ الحالات، وهي حالة التصور المعاصر – من أجل السيطرة على الطبيعة أو التفاوض معها، وهذا مفيد جدا للنظر والدراسة.
ولذلك، لا توجد ثقافة بدون حيل. يجب الاستيلاء على تكنولوجيات المتخيل من أجل تشكيل متخيل تكنولوجي آخر. إذا كانت التقنية تغير الإنسان فهو يبقى قادرا على ابتكارها وتحويلها لمصلحته، وهذه هي الحالة مع الأنترنت التي – كما يعلم الجميع – وُلدت عسكرية لتصبح تحررية بالنسبة للكثيرين. لن نلازم اللامبالاة إزاء الـمناطق المستقلة المؤقتة التي يحدثنا عنها حكيم باي[16]، والتي يستطيع الإنسان فيها، على غرار مجتمعات قراصنة القرن XVIIIم، أن يخلق فضاءات حرية مطلقة ويعيش فيها. والمنطقة المستقلة المؤقتة، كما يقول المؤلف، هي مثل تمرد على الدولة بدون التزام، وهي عملية فدائية تحرر مساحة (من الأرض، والزمن، والخيال)، وبعد ذلك تذوب قبل أن تسحقها الدولة، لكي تتكوَّنَ مجددا في مكان آخر داخل الزمان أو المكان. والشبكة لا توفر فقط الدعم اللوجستي للمنطقة المؤقتة الحرة، بل وتتيح لها أيضا أن توجد في هذا العالم الواقعي وفي عالم فضاء الإعلام الافتراضي.
في نطاق أوسع، ربما يجب ألا نحمل التكنولوجيا في حد ذاتها الكثير، مما يُعيدُ إلى تصور ميتافيزيقي للمسألة، وأن نعود إلى مناقشة استخدام التكنولوجيا حسب علاقات القوة والظروف الاقتصادية، ووفقا لمتخيل مجتمع أو عصر باختصار.
بعبارة أخرى، يمكن القول، في خط تفكير ميشال مافيصوليM. Maffesoli وإدغار موران E. morin، ودون إنكار الرؤية النقدية لجان بودريار، إنَّ المتخيل التكنولوجي هو ثمرة متخيل اجتماعي يقوم بتوضيب ارتدادي تغذيه هو الآخر تكنولوجيا المتخيل المتاحة في وقت من الأوقات. في هذه الحالة، يهمُّ تصور صلبٌ للواقع أولئك الذين يعتقدون أن لديهم مشروعا مكتملا من أجل المجتمعات، إما الشيوعية أو دين من الأديان. ليس الواقع أكثر من فرع متخيَّل تشكله تكنولوجيات الرؤية.
إنَّ فرض العالم الافتراضي، باعتباره مسيحا جديدا، هو مشروع أولئك الذين مع إيمانهم بالقوة التحريرية لتكنولوجيات المتخيَّل لا يقومون بأكثر من التجذر في متخيل تكنولوجي إيجابي. في هذه الحالة، يُعادل إنقاذ الواقع حماية نوع في طريق الانقراض باسم أحلام بالية. من خلال الواقعي والافتراضي يتواجه، مرة أخرى، القدماء والمحدثون. من المؤكد أن التكنولوجيا التي لا متخيل لها لا تُقبلُ. والتكنولوجيات الحالية هي بالأحرى بصدد إعادة إضفاء السحر على عالمنا، وتطورها غالبا ما يكون نتيجة مجموعة من الرؤى التي تدفع الناس إلى تجسيد متخيلاتهم.
يعرف أنصار تكنولوجيات المتخيل ومتخيل التكنولوجيا أنَّ الإبحار في الشبكة هو مثل العيش، لا يكون دقيقا حتى لو كان ذلك ضروريا. وها هو التعبير نفسه وقد قُلبَ يُفضي إلى عالمين مختلفين تماما، ولكنهما يظلان متحدين من أجل هاجس واحد هو العيشُ في أفضل العوالم.
ج. ماتشادو داسيلفا وف. كاسالينيو
[1] Juremir Machado da Silva جوريمير ماتشادو دا سلفا أستاذ في جامعة بورتو أليغري الكاثوليكية، وباحث في CEAQ بالسوربون، باريس V وفي CNPq – المركز الوطني للبحوث البرازيلية. صدر له:
– Les technologies de l’imaginaire. Médias et culture à l’ère de la communication totale, Paris, Éd. LaTable ronde, 2008.
Federico Casalegno: فرديريكو كاسالينيو باحث في CEAQ، السوربون باريس V، وحضر بحث ما بعد الدكتوراه في الـ MIT:
[2] Neil Postman, Technopoly. The surrender of culture to technology, A. Knopf, Inc. , New York, 1992.
[3] مركب صناعي يتألف من عدة أقطاب: قطب أكاديمي، قطب وسائطي، قطب الميكروإلكترونيك، قطب البحث والتنمية، وما إلى ذلك. (م)
[4] فنان بولوني، ترجمنا له ضمن هذا الكتاب مقالة «الأذن الثالثة أو أذن تحت الذراع» (م).
[5] Stelarc, Da strategie psicologiche a cyberstrategie: prostetica, robotica ed esistenza remota, in Il corpo tecnologico, a cura di Pier Luigi Capucci, Ed Baskerville, Bologna, Italie, 1994.
[6] Sur ce point voir aussi l’analyse de M. Dery, Escape Velocity: cyberculture and the end of the century. Trad. française: Vitesse Virtuelle. La cyberculture aujourd’hui. Ed Abbeville, Paris, 1997. P. 249 à 254.
[7] ترجمنا لها، ضمن الكتاب الحالي، مقالا بعنوان: «بيان من أجل الفن اللحمي». (م).
[8] كيفن وارويك kevin Warwick أستاذ في قسم السيبرانية بجامعة Edimbourg, Ecoss.
(البروفسور كيفن وارويك باحث في قسم السيبرانية بجامعة ريدينج بأنجترا. تحدثت دانييلا سركي عن تجربته في دراستها « مجتمع الإعلام بين تكنولوجيات الاتصال وتكنولوجيات الكائن الحي: الخلود بالتحكم في الكود المعلوماتي» المترجمة في الكتاب الحالي، ثم عادت إليها في ثنايا حوارها «هل يندمج الإنسانُ في الآلة ثمَّ يتخلص من الجسد؟»، ترجمناه وجعلناه ملحقا ثانيا لدراسة دانييلا « مجتمع الإعلام بين تكنولوجيات الاتصال وتكنولوجيات الكائن الحي: الخلود بالتحكم في الكود المعلوماتي» ضمن الكتاب الحالي. (م))
الحالي، في العنصر المعنون بـ «مهنة الاعتقاد: السايبورغ». (م).
Lire Il Corriere della sera, 27/08/1998, p.16, Milano, Italie. Lire »Dialogo con Kevin Warwick: Memorie cibernetica e cervelli in rete«, publié dans Casalegno, Federico, Memorie Quotidiane. Le Vespe editore, Milano, 2001
[9] Jeremy Rifkin, The biotech century, Putnam, USA, 1998.
[10] Jean Baudrillard, Simulacres et simulation, Éd Galilée, 1981, Paris, p.163/176.
[11] أفضل العوالم Brave New World هي رواية أصدرها، في عام 1932، الكاتب الروائي والفيلسوف البريطاني المشهور (1894-1963م) ألدو هوكسلي Aldous Leonard Huxley يستبق فيها «الديستوبيا» أو العالم المرير، استوحاها من الانجرافات الطبية التي رسمها عصره، وعبر من خلال الرواية عن قلقه من إمكانية أن تصبح تلك الانجرافات حقيقة واقعية. هكذا، ففي هذه الرواية، لم يعد الأطفال يولدون بطريقة طبيعية، بل يُصممون في أنابيب، ويتلقون خصائص جسدية وفكرية تنقل وراثيا وفقا للطبقة المقرر أن ينتموا إليها. بذلك، في الطبقة العليا، نجد فئة ألفا وبيتا، وهي النخبة السائدة، يصمم أفرادها ليكونوا جميلين وطويلي القامة وأذكياء. وفي الطبقات الدنيا، نجد جاما التي تشكل الطبقة الشعبية. وأخيرا، نجد طبقتي دلتا وإيبلسون، ويربى أطفالها ليصبحوا قبيحي الهيأة، مسخرين للقيام بأدنى المهام وأبسطها في المجتمع، ولأجل ذلك، تتعرض بويضات أفراد هذه الطبقات للبرد وتوقيف نموها وحقنها بجرعة من الكحول قبل أن تكون قادرة على مواصلة نموها… يتطرق الكتاب أيضًا لمكافحة الشيخوخة والأمراض، بحيث تصبح مستويات المغنيسيوم والكالسيوم لدى كبار السن كما كانت يوم كانوا في سن الثلاثين، ويتلقى هؤلاء الكهول العديد من الحقن لمحاربة الشيخوخة، كنقل دم الشباب. أخيرًا، هناك ما يسمى “المتوحشين”، وهم أفراد قرروا محاربة هذه التحسينات وطريقة الحياة هذه. وبذلك، فهم يعيشون في محميات بعيدة عن الحضارة، ويتوالدون بطريقة طبيعية، ويتم إبعادهم عن تكنولوجيا عصرهم. عن:
Littérature et transhumanisme:
https://unmondesanshumain.wordpress.com/litterature-et-transhumanisme/
(م).
[12] انظر في هذا الصدد:
– Sale, Kirkpatrick, Rebels against the future: the luddites and their war on the industrial revolution, Addison-Wesley, USA, 1994.
[13] الإكستروبيا (extropie): نقيض الأنتروبيا (entropie) إذا كان مآل كل نظام، بيولوجيا كان أو غيره، هو التوقف والموت بفعل تدخل الأنتروبيا، تبعا للقانون الثاني للدينامية الحرارية، فالإكستروبيا، حسب مشتقي الاصطلاح، تسير في الاتجاه المعاكس، حيثُ يُراد عبرها تخليص الجسم البشري من الحركة التي تنحو به نحو الموت والزوال لكي يصير كائنا خالدا لا يموت. وقد ترجمنا ضمن الكتاب الحالي نص «مبادئ إكتسروبية 3.0» لماكس مور أحد أبرز نشطاء نزعة الإنسانية العابرة ومنظريها.(م).
[14] Voir Roberto Di Cosmo, Piège dans le cyberspace,
نص متوفر في شبكة الأنترنت:
http://www.dicosmo.org/Piege/cybersnare/piege.html
[15] انظر الموقع في شبكة الأنترنت:
هذا البيان للـ «التكنو-واقعيين»، متوفر في الشبكة:
http://www.memento.com/chroniquesab/technorealisme.html
[16] Hakim Bey, TAZ, Ed Autonomedia 1991, USA, Ed française Editions de l’Eclat, 1997.