أدب رقمي

جان كليمون Jean Clément: الأدب ومغامرة الرقمية /ترجمة محمد أسليم

 

  1. مقدمة

تربط بين الأدب والعالم الرقمي بعلاقات معقدة، وتتجاوز رهانات هذا التقاطع كثيرا مجرد استبدال حامل بآخر. وقد يكون اختزالُ هذه المسألة في قضايا البحث عن قراءة مريحة، وحقوق الطبع والنشر أو في بواعث اقتصادية، تجاهلا لطبيعة الأدب الخاصة وعلاقته بالحوامل المادية لتسجيله وتداوله. ولكن يبدو أن جميع العاملين في مجال الأدب (الكتاب والناشرون والموزعون والنقاد، والقراء، ومختلف المؤسسات الأدبية) لم يُدركوا بعد القضايا الإبستمولوجية التي تُطرح على الأدب عندما يُغادر الكتاب الذي ظل حامله الوحيد منذ وقت طويل(1).

صحيح أننا لازلنا في بداية هذا التحول وأن ما يُسمى بالأدب الرقمي لا يكون في أغلب الأحيان سوى أدب مُرقمن، أي مجرَّد إعادة تدوير لنصوص منشورات كلاسيكية في وسيط جديد. ومما له دلالة في هذا الصدد كون أول جائزة أدبية إلكترونية مُنحت في معرض فرانكفورت للكتاب في عام 2000 كانت من نصيب كتبٍ نُشرت لأول مرة ورقيا قبل أن تصدر في حامل إلكتروني(2). ولكن ما وراء هذه البرودة – المتفهَّمة جدا – من جانب الناشرين الحريصين على الحفاظ على حصتهم في السوق، تختفي بعض القضايا الأساسية التي تعود إلى طبيعة النص في علاقته بالوسائط. فقد اقترن الأدب بالكتاب منذ فترة طويلة لدرجة أننا صرنا نميل إلى القلق على مستقبل الكتاب أكثر مما نتساءل عن طبيعة العلاقة التي نشأت منذ خمسة قرون بين النص وحامله المطبوع. وبتحرر الأدب من هذه الصلة، فهو يُخاطر بتعريض هويته للمراجعة، ويجازف بالفقدان أو التلاشي في هذا التحول الوسائطي الواسع الذي يجري الآن.

يتعين على السؤال الأول أن يدور حول تجريد النص وطبيعته التي أصبحت اليوم افتراضية. هل يمكن أن يكون هناك أدب مكتوب دون حامل مادي ثابت ودون كتاب ولا صفحات ورقية؟ وثقافتنا المطبعية التي تحدد وتشكل ظروف تلقيها، هل ستصير دون موضوع؟ علاوة على ذلك، فرقمنة النص تجعله أيضا قابلا للمعالجة المعلوماتية، بل وحتى للتوليد باستخدام برنامج معلوماتي. هل يُخاطر الأدب هنا بأن يتحول إلى مجرَّد منتوج صناعي؟ وبانسياقه وراء التعدّد والتكرار، هل يخاطر بالتحول إلى نص قابل للتوليد اللانهائي وتدفقٍ لا ينقطع من الكلمات دون أن يكون له مؤلِّف؟ ومع ذلك، يجد شعراءٌ اليومَ في شاشة الحواسيب مساحة جديدة لكتابة أعمالهم، ويسعون إلى استعمال الفرص الجديدة التي تقدمها هذه الشاشة، وخاصة في مجالي النصوص المتحركة والأعمال التي تستخدم الوسائط المتعددة. ولكن من خلال الجمع بين النص والصورة والصوت تتم المجازفة بظهور أشكال جديدة يُترَدَّدُ في إدراجها ضمن الأدب مادامت تتهجَّنُ مع أشكال فنية أخرى نشأت باستعمال الوسائط المتعددة(3). إضافة إلى ذلك، فالأدب الرقمي يمهد الطريق لظهور أعمال تفاعلية، ولدى اعتبار القارئ في عملية تكوين العمل المعروض للقراءة تظهر إشكالية جديدة تحضر بالخصوص في النص التشعبي. عندما يضع الأدب القارئ في موقع الفاعل، ألا يخاطرُ بفقدان جزء من امتيازاته لفائدة لعبة مثيرة يرتجل فيها القارئ دورَ المؤلف / اللاعب؟ هنا أيضا يجد الأدب نفسه في مواجهة نهايته.

أخيرا، فإمكانات نشر الأدب على شبكة الإنترنت تهدد بانهيار التسلسل الهرمي للمؤسسة الأدبية وأنواع الأدب، إذ يؤدي النشر الذاتي والكتابة على الشبكة إلى ظهور طرائق جديدة للتعبير والكتابة بعيدة جدا عن عالم النشر الذي بُنيَ حول الكتاب وظل ينظم أنماطه التواصلية والاستهلاكية إلى اليوم.

 

  1. مخاطر الشأن الافتراضي

يرتبط الأدب في ثقافتنا الغربية الحديثة ارتباطا جوهريا بالمكتبة والكتب بحيث ظل منذ فترة طويلة في منأى عن التطورات الحاصلة في حقل المعلوماتية. بل لقد أبدى المبدعون والنقاد منذ وقت مبكر جدا مقاومات شديدة لاستخدام الحاسوب أداة للقراءة والكتابة. ومن المفارقات أنَّ معلوماتيين أو علماء من آفاق متنوعة هم أول من اهتم بالإمكانات الجديدة التي أتاحتها المعلوماتية لدراسة الأعمال الأدبية. هكذا في عام 1963، وفي أعقاب أعمال جان كلود غاردان حول التحليل المفاهيمي للقرآن على بطاقات مثقبة، شرع الباحثون في الاستفادة من الموارد الرقمية في دراسة النصوص. ولكن كان من الضروري مع ذلك التغلب على الكثير من التردد وسوء التفاهم(4).

لفهم التحديات التي تطرحها رقمنة النصوص الأدبية فهما جيدا، يجب أوَّلا الرجوع إلى التقنيات المستخدمة في هذه الرقمنة. تتيح أجهزة الحواسيب ترميز الصورة والصوت والنص ومعالجتها ببرامج معلوماتية. ويحتل النص في هذه العملية مكانا فريدا، إذ خلافا للصورة والصوت، ما يتم ترميزه في النص هو ماديته التماثلية، ومن ثمة يمكن ترميز النص بطريقتين مختلفتين جذريا، هما صيغة الصورة وصيغة النص.

يُرقمَنُ النصّ بصيغة الصورة من خلال مسحه ضوئيا. ولهذه الطريقة ميزة الحفاظ على خصائص التصميم الأصلي للصفحة كما أنها أقل كلفة. ولهذا السبب اختارتها المكتبات لرقمنة مخزوناتها. وميزات هذه الصيغة مقارنة ببطاقات الميكروفيلم كثيرة، ولذلك تمّ التخلي عن هذه لفائدة الأولى، حيث لم يكن من السهل معالجة بطاقات الميكروفيلم ونقلها واستنساخها. ولو اقتصر الأمر في الرقمنة على مجرد توفير نسخ للباحثين والقراء لما كان للعملية سوى فائدة عملية، وبالتالي لما كان هناك داع للقلق. ما قد يثير الخوف هو أن تكون القراءة على الشاشة ليست مريحة كالقراءة على الورق. ولكن النصوص المرقمنة بهذه الصيغة تكون جامدة ولا يمكن للحاسوب أن يجري عليها أي عملية: لا يمكن البحث فيها عن كلمة أو جملة، ولا إدراجها في معالج للنصوص من أجل نسخها أو تعديلها(5)، مع أن هذه العمليات هي التي استقطبت اهتمام الباحثين منذ وقت مبكر وأثارت الكثير من الجدل. في الواقع، من هنا انطلق كل شيء، إذ ظلت رقمنة النصوص بصيغة النص لفترة طويلة هي الطريقة الوحيدة الممكنة للرقمنة.

كانت الحواسيب قبل أن تتوفر على واجهات رسومية تستطيع إعادة إنتاج النص بترميز (أو تشفير) حروف نظام كتابته وليس بتصميمه المادي على الصفحة. ولأجل ذلك، تمَّ ربط كل حرف من الحروف الهجائية بقيمة رقمية.

يؤدي هذا الترميز للنص إلى تجريده من حامله (الصفحة) ومن شكله الطباعي (رسم الحروف) مما يُفضي إلى تقليصه إلى بُعده اللغوي المحض والمجرَّد من إخراجه البصري. وهذا الشكل من الرَّقمنة يجعله قابلا للمعالجة بالحاسُوب ويفتح الباب أمام طرائق جديدة للقراءة والكتابة. في الواقع، لا ترى الآلة في النص أكثر من مجرد متوالية من العلامات المجردة التي يمكن تخزينها ونقلها وإحصاؤها ومقارنتها وتقسيمها إلى سلسلات وبرمجتها، وما إلى ذلك. وتكون إمكانات التحكم في النصوص والتلاعب بها هنا من الكثرة بحيث لم يتردد مؤرخون للكتاب، مثل روجيه شارتييه(6)، في نعت العصر الذي انفتح في مجال الكتابة بأنه ثورة، إذ ليست فقط عاداتنا في القراءة هي التي تشهد تعديلا، بل مفهوم القراءة نفسه يغتني بعدد وافر من المعاني التي لم يكن من الممكن تصورها من قبل. ولوصف هذا التحول الإبستمولوجي، يقترح البعضُ تسمية جديدة هي «القراءة التشعبية» مشيرا بذلك إلى أنَّ مفهوم القراءة أصبح الآن غير كاف لتغطية ممارسات تختلف أحيانا اختلافا كبيرا عما اعتدنا عليه إلى وقتنا هذا.

مع ذلك، ورغم الآفاق التي يفتحها النص المرقمن بصيغة النص لا يجب أن ننسى أنَّ هذا التحول هو أيضا فقدانٌ للمعلومات. يعلمنا تاريخ التدوين أنه لا يمكن اعتبار الكتابة مجرَّد نسخ للغة الشفهية. فقد سعى الوراقون والمطبعيون، على مر القرون، إلى تخليص الكتابة من القيود التي تفرضها الخطية لإنشاء قراءة موجَّهة أكثر فأكثر إلى التقاط الإشارات البصرية. وتسمى هذه القراءة أحيانا بالجدولية لأنها تعتبر الصفحة بمثابة سطح من العلامات يشكل شبكة دلالية وسيميائية في آن واحد. ولكن هذا الإدراج للنص في فضاء يُسهم في تشكيل المعنى يختفي في الترميز بصيغة النص. ولتعويض هذه الخسارة دون اللجوء إلى رقمنة النص بصيغة الصورة، تمَّ التفكير في حل يستجيب جزئيا للمشكلة، وهو وضع علامات في النص تسمى «حقائب»، وتعيد إدراج المعلومات المفقودة على شكل خطاب واصف. وبذلك، يستطيع الحاسوب أن يستعيد، ولو جزئيا على الأقل، تصميمَ الصفحة الأصلي. بفضل الحقائب، يمكن إرفاق كل عنصر من عناصر النص (عنوان، عنوان فرعي، إحالة، ملاحظة أو حتى مجرَّد كلمة واحدة) بمعلومات تتناول تارة وضعه في الاقتصاد العام للنص الأصلي، وتارة شكل ترتيب الفقرات والحروف الذي يجب أن يأخذه  لدى عرضه على الشاشة أو عندَ طباعته (محاذاة الفقرات، نوع الخطوط وحجمها وسِماتها من سُمك وميلانٍ، وما إلى ذلك)، وتارة ثالثة تتناولُ  طبيعة النص الدلالية. منذ عام 1986 ونظام تعريف لغات التوسيم SGML  يُحدِّدُ طريقة وضع قواعد التوسيم التي من أشهرها لغة توصيف النص التشعبي html، ولغة التوسيم الموسَّعة XML ، ومبادرة ترميز النصTEI ، ثم في الآونة الأخيرة فاتح الكتاب الإلكتروني Open e-Book، وهو معيار لعرض النص على الكتب الإلكترونية.

ولكن هذه المحاولة لإعادة بناء خصائص الكتاب الورقي الإلكترونية على الحامل الرقمي الذي يُعتبر الكتاب الإلكتروني e-Boock ممثِّله الأحدث قد تكون مجرد مُؤشرَ تَرَدُّدٍ في هذه اللحظة بالذات من التاريخ بين الانفتاح على أشكال جديدة من القراءة والكتابة والانطواء داخل كائنات رقمية تبعث على الاطمئنان من خلال إعادة إنتاجها لخاصيات الكتاب الورقي أقرب ما يُمكن.

بالرجوع إلى تاريخ الكتابة الطويل يتضح أنَّ ما من حامل جديد يظهر إلا ويؤدي إلى تغيير أنماط القراءة وطرائق استخدامها، بيد أنَّ التحول الذي يُحدثه الحامل الرقمي هو أكثر جذرية.

 

  1. من الكتاب إلى المتـن

أول نتيجة للترميز المعلوماتي للنصوص هي تجريد الكتاب، أي تحويله إلى كائن غير مادي، ليس فقط بوصفه حاملا لتنظيم النص، ولكن باعتباره كائنا مغلقا على نفسه. لم يعد الكتابُ ««حجما»، ولم يعد يشكل وحدة القراءة للمكتبة، حيثُ لم تعد النصوص المرقمنة مقيدة بقيود الورق، وفي المقابل صار الإمكان حفظها في حوامل عالية القدرة على التخزين، في شبكة الأنترنت أو في أقراص مُدمجة. وهذا التغيير في الحجم يغير العلاقة بين القارئ والنص. إذا كانت قراءة كتاب «مذكرات ما وراء القبر» على الشاشة ممارسة شاقة (من هذا الجانب يبقى الكتاب مريحا بدرجة لا مثيل لها)، فإمكانية الوصول الفوري إلى الأعمال الكاملة لشاتوبريان يفتح آفاقا جديدة للقراءة. يعوِّضُ المتنُ الكتابَ. وحيثُ المتنُ يتألف من النصوص التي كتبها مؤلف واحد أو من نصوص مجموعة أوسع (أنطولوجية نوع أدبي ما، أو مجموعة من الكتب المنشورة في فترة معينة، وما إلى ذلك)، فإنَّه صار وحدة القراءة الجديدة على الحامل الإلكتروني.

وما يتوقعه المستخدم من فحص قاعدة بيانات نصية مبنية على أساس متن، هو معلومات لا تتيحها القراءة العادية للكتاب، وإن أتاحتها فبعد جُهد شاق جدا لا تكافئه النتائج المحصَّل عليها، في حين ينفذ الحاسوب هذه المهام التي يسميها الأنجلوساكسيون عن حق بـ «الأعمال الرهبانية»، بدقة وسرعة لا نظير لهما. فسواء تعلق الأمر بتحديد معجم فيكتور هوغو لمقابلته مع ألفاظ معاصريه أو بحصر ظهور شخصية ما في مختلف روايات الكوميديا الإنسانية، أو بدراسة جانب من عمل كوليت أو بوضع قائمة كلمات حقبة أدبية معينة حسب سُلَّم تردد تنازلي، يفتح الحاسوبُ الطريق أمام «قراءات» جديدة تغير علاقتنا بالنصوص بشكل كبير.

يختلف استخدام الحاسوب «آلة للقراءة» تبعا لأهداف القراءة ووسائل دعمها. فقاعدة البيانات المبنية بشكل هرمي، مثل قاعدة Frantext، تقدم مجموعة كبيرة من أدوات القراءة والبحث القابلة للتطبيق على متن يتألف من أكثر من 3000 كتاب من القرن الرابع عشر إلى أيامنا هذه. والأقراص المدمجة التجارية، كتلك التي تصدرها دار النشر أكاديما أو غاليمار، تستجيب من جهتها لفضول الطلاب والجمهور الواسع، إذ تتيحُ أدوات القراءة التي تقترحها إجراء عمليات بحث ليست متقدمة جدا، ولكنها تعوض عن هذا الجانب بتوفير بيئة وثائقية نصية وإيقونغرافية تشجع على توليد أشكال جديدة من القراءة.

كما لم يعد النص مُسجَّلا في فضاء مقيَّد يعزله عن باقي المكتبة، إذ يرتبط بفضل الوصلات التشعبية بنصه الكامن المتألف من جميع النصوص التي استوحاها المؤلف بطريقة علنية أو سرية، شعورية أو لا شعورية. وهذه العلاقة التي كانت جوليا كريستيفا(8) أول من نظَّر لها، تجد في النص التشعبي أداة إجرائية  تسهل على القراء الوصول إليها(9).

 

  1. هل هي نهاية المكتبة؟

تؤدي رقمنة النصوص أيضا إلى «إزاحة» هذه النصوص من «تربتها الخاصة»، وهي حركة بدأت بالفعل مع أولى الحوامل المغناطيسية، وتسارعت مع انتشار شبكة الإنترنت. لقد أصبحت النصوص الآن لا توجد فقط في الكتب والمكتبات، ولا في الأقراص الثابتة أو المدمجة فحسب، بل تتنقل في الشبكات، ومن ثمة فقد صارت «رحَّالة». وبخلاف الكتب التي لا زالت تخضع لاعتبارات مادية لا مفر منها للنشر والتوزيع، تتحرر النصوص الرقمية من قيود المسافات وأجهزة سلسلة التحرير الوازنة. هكذا، فرواية من 800 صفحة تُستنسخ في بضع ثوان وتُرسل إلى الجانب الآخر من العالم في حوالي دقائق. ولقراءة نص ما، لم يعد من الضروري المرور عبر وسطاء الكتاب الاعتياديين. وعلى شبكة الإنترنت، يوزع كُتابٌ، مثل ستيفن كينغ(10)، أعمالهم بأنفسهم، وتدعو جمعيات، مثل جتنبرغ(11) في الولايات المتحدة الأمريكية أو ABU (الجمعية محبي الكتب العالميين)(12)، رواد الشبكة للمساهمة من أجل تكوين «أبناك» نصية مفتوحة المصدر. كما توفِّرُ مواقع مرجعية، مثل موقع أثينا(13)، كتالوجات تفاعلية للنصوص المتاحة عبر العالم. وتسوِّقُ مكتباتٌ الكتبَ على الأنترنت، ويُرسل ناشرون(14) مؤلفات رقمية لعملائهم.

ولكن الكتابَ بخروجه من المكتبة يفقد بعضا من هويته. فمكانتُه في إنتاج المعارف وقيمته التراثية تقدَّرُ في الواقع داخل علاقته بغيره من الكتب في المكتبة. وهذه العلاقة ليست من مسؤولية القارئ وحده، إذ المكتبات هي التي تبنيها وتنظمها. وقد أظهر مؤرخ الكتاب روجيه شارتييه جيدا إلى أي حدٍّ شكَّلت أعمال مراجعة النصوص، وتصنيفها، واقتباسها على مر القرون «نظاما للكتب» مُهَيكِلا للمعارف. تلحق الرقمية تغييرا جذريا بجميع مراحل صناعة الكتاب واقتصاده القديم، ومن ثمة يجب إعادة التفكير كليا في العلاقات بين القارئ والمؤلف، والناشر، والكتبي.

وفي مواجهة تشتت مصادر القراءة وتباينها، يجد القارئ أحيانا صعوبة كبيرة في البحث عن المعلومات بسبب عدم وجود معايير طوبولوجية ونوعية. في الواقع، إذا كان استخدام محركات البحث يتيح العثور على النصوص انطلاقا من كلمات أو جمل مفاتيح، فهو يُنتج الكثير من «الضجيج» ولا يُعطي أي مؤشر على قيمتها. و«البوابات» المرجعية هي الوحيدة التي تقدم رؤية منظمة وهرمية لجزء من كتلة النصوص المتوفرة، ومن خلال قيام هذا النوع من البوابات بدور مكتبة افتراضية فهي تسهم في إعادة شيء من النظام إلى عالم غير منظم.

ومع ذلك، فالتجديد الحقيقي لا يكمن في محاولات إعادة بناء المكتبة التقليدية القائمة على تنظيم للمعارف هرمي ومُسبق، بل في تشكيل بنية في الشبكة تتيح إعادة ترتيب مجموع الوثائق حسب تنوع واسع من المسارات تستجيب لمنطق يعتبر بشكل أفضل لاهتمامات القراء. تتكون هذه البنية الشبكية التي نظر لها فانيفار بوش منذ عام 1945، ثم تيد نيلسون في عام 1965، تحت اسم النص التشعبي، تتكوَّنُ من «عُقد» (نصوص) وروابط تربط بينها بحيثُ يستطيع القارئ أن ينشطها – أو لا ينشطها – أثناء قراءته. بذلك، وعلى غرار الموسوعة الكلاسيكية التي يستلهمها النص التشعبي، فهو يتحرر من خطية صفحات الكتاب ومن قيود حجمه، ويعرض نفسه للقراءة بوحدات «ضمنية» تترابط فيما بينها بعلاقات قابلة للتنوع(15).

ومن نتائج هذا الجهاز تجزيء النصوص والقراءة، إذ بتحرر القارئ من الخضوع للترتيب التسلسلي للصفحات ومن خطية خطاب المؤلف يغدو في استطاعته أن ينتقل في أي لحظة من رابط إلى نصوص أخرى حسب اهتماماته ليطلع على معلومات تكميلية أو ليأخذ مسلكا يمكن أن يقوده أحيانا بعيدا جدا عن النص الأصلي. ولكون النص التشعبي يُعطي للقارئ الحرية الكاملة في قراءته، فهو يفكك نظام النص ويُجرِّدُ مؤلفه من جزء من سلطته التأليفية. ففي شبكة الأنترنت، على الخصوص، لا تستطيع أي آلية مُرضية أن تحدد اتجاها مسبقا وجهة قارئ قد ينتقل من مؤلف إلى آخر في غمرة القراءة ودون أن يمر من نقطة انتقال. وحتى في الحالات، النادرة الأخرى، التي يُنظم فيها المؤلف خطابه على شكل نص تشعبي، يستحيل عليه أن يتوقع سائر السياقات التي سيتم فيها قراءة مقاطع نصه.

يمكن لهذا النمط الجديد من القراءة أن يناسب النصوص الخبرية، ولكن يبدو من الصعب أن يُناسب كتابات الفكر التي تتطلب الاستمرارية والتأنِّي. ولأنه يشبه الزابينغ التلفزي، فهو يجعل البعض يخشى مخاطر «قراءة سطحية». في الواقع، نحن في بداية عهد جديد ويجب ابتكار أشكال خطابية جديدة لكي يجد النص التشعبي شرعيته في الفضاء الذي انفتح أمام الكتابة.

 

  1. هل الكتاب الإلكتروني مجرَّد انتقال؟

بالحكم على الكتاب الإلكتروني الذي نزل حديثا إلى السوق (والذي يسميه الأنجلوساكسيون e-boock) من خلال عدد الفاعلين الملتزمين بتطويره وترويجه، يبدو أن مستقبلا واعدا ينتظره. فالمصممون والمصنعون والناشرون والفاعلون في شبكة الأنترنت كلهم يبحثون عن الوصفة السحرية التي ستتيح التوفيق بين العادات الثقافية للنشر التقليدي وإمكانات الكتاب الإلكتروني.

يشكل ظهور الكتاب الإلكتروني تحدّيا مزدوجا. فهو يجذب المعتادين على الكتاب من خلال حفاظه على بعض خصائص الكتاب التقليدي الأساسية، إذ يوفر بديلا عن القراءة غير المريحة على الشاشة التي تتطلب من القارئ أن يظل جالسا أمام حاسوبه المكتبي في وضع غير مريح. ويتمثل هذا البديل في فوائد التنقل، إذ يُحمل الكتاب الإلكتروني في اليد، ويمكن نقله إلى أي مكان، ثم إنه يتيح قراءة جيدة. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، يتيح «انغلاقه» للفاعلين الاقتصاديين في سلسلة الكتاب أن يعثروا على دورهم ويحافظوا على مداخيلهم. معه، يبتعد شبح النص المتنقل بحرية وخارج نطاق كل سيطرة. والواقع أنَّ نماذجه المختلفة المتوفرة(16) تتوقعُ أجهزة ترميز تجعل النص لصيقا بالجهاز بحيث لا يمكن قراءة الكتاب الذي نزَّله القارئ، بعد اقتنائه، إلا على جهاز واحد كما لا يمكن استنساخه أو توزيعه. وبذلك يتم وضع حد لتشتت النصوص، والرجوع إلى الوضع السابق الذي كان فيه المؤلفون والناشرون يحصلون على مكافآتهم بالبيع للقارئ. من هذه الوجهة للنظر، قد يشكل الانتقال إلى الحامل الإلكتروني نكوصا للممارسات القرائية لأنَّ ربط النسخة الواحدة من الكتاب بجهاز واحد للقراءة سوف يعيق رواج الكتب على شكل استعارة بين الأفراد أو من المكتبات.

بالموازاة مع ما يحدثه الكتاب الإلكتروني من تغيير في تجارة الكتب فهو قد يُنتجُ علاقة جديدة بالنص، إذ رغمَ أنَّه ليس بقوة الحاسب المكتبي فهو يقدم بعض وظائف قواعد البيانات النصية. من ذلك أنه مجهَّز بقلم صغير وواجهة تفاعلية، مما يتيح للقارئ أن يمارسَ دون صعوبة هذا النوع من القراءة الذي يُنعتُ بالقراءة «العالمة» التي ظلت حتى الآن حكرا على المتخصصين، كما أنَّ وظائفَ البحث عن تواتر سلسلة مفردات وتنشيطَ الروابط التشعبية مبسَّطان فيه، في حين تعزِّزُ إمكانات التقميش الديناميكي (التسطير، وضع علامات، وتدوين ملاحظات في هوامش النص، وما إلى ذلك) القراءة النشطة التي تجعل القارئ على استعداد للانتقال في أي لحظة من القراءة إلى الكتابة..

 

  1. آفاق الكتابة الإبداعية الجديدة

كان الأدب دائما يعتمد على الحوامل ووسائل إنتاجه. وقد أدى كل من الحجر المنقوش، والرقعة، والدفتر، والكتاب المطبوع، والآلة الكاتبة، ومعالجات النصوص، على التوالي، إلى ظهور طرائق مختلفة للقراءة والكتابة. ومع المعلوماتية، انفتح فضاء جديد للكتابة يوفِّرُ طرائق أكثر ثراء وتنوعا من نظيرتها التي قدمتها الحوامل السابقة. ويعود هذا الثراء والتنوع أساسا إلى ثلاثة خصائص للنص الرقمي الذي نميزه عن النص المُرقمَن الذي لا يعدو مجرد إعادة إنتاج نص موجه في الأصل للقراءة على الورق.

السمة الأولى هي صيغة العرض. فبخلاف الورق الذي يُرسخ النص في شكل نهائي، تستطيع شاشة الحاسوب أن تحتضن تخطيطات مختلفة للصفحة وخيارات حروف قابلة للتعديل. وهذه الإمكانية وحدها تعيد للمؤلفين و/أو القراء جزءا من صلاحيات الناشرين المتعلقة بالإخراج المادي للنص الذي سيقرأه القارئ لاحقا. أكثر من ذلك، تفسح هذه الإمكانية لتغيير إخراج النص المجال، بشكل مُذهل، لعرض نصوص متحركة، ودينامكية، على نحو تصير فيه الشاشة فضاء متحركا للقراءة.

والخاصية الثانية هي قابلية النصوص للبرمجة. فبفضل برامج معلوماتية، لم يعد النص فقط يُعرضُ، بل صار يُولَّدُ بالآلة، وصار المؤلف هو «مهندس النص» حيث لم يعد يكتبُ كتبا وإنما صار يصمم خوارزميات، بل ويصمم أحيانا حتى برامج ليفسرها الحاسوب لاحقا. وبذلك يصير المؤلف، على نحو ما، هو أول قارئ للنصوص التي تنتجها الآلة.

أما السمة الثالثة فهي التفاعل، ويُقصدُ به إمكانية تدخل القارئ في سيرورة الكتابة نفسها عبر خيارات يُجريها فتؤثر على النصوص التي ستُعرَضُ عليه للقراءة، أو تؤثر ببساطة في ترتيب ظهور تلك النصوص على الشاشة.

وقد أفضت هذه الخصائص الثلاث إلى ميلاد ثلاثة «أنواع» أدبية هي: التوليد التلقائي، والشعر المتحرك، ثم القصص الخيالية التشعبية. بالتأكيد، نادرا ما يمكن العثور على كل نوع من هذه الأنواع في حالته الخالصة، ولكن التمييز بينها يتيح فهما أفضل للإشكاليات التي تُطرح فيها.

 

  1. الكتابات التوليدية

يشكل التوليد التلقائي أول هذه الأنواع، وهو يطابق رغبة قديمة جدا في الكتابة عبرت عن نفسها أوَّلا في فن التوليف قبل أن تستفيد من بحوث اللسانيات لتصميم برامج معقدة تولِّدُ نصوصا يمكن قراءتها كأنها نصوصا ورقية. وبرفع النص الرقمي لتحدي منافسة للنصوص الكلاسيكية، فهو يضع نفسه تحت علامة المقروء.

والنصوص التوليدية أو الـ «الإجرائية»  هي تلك التي تنتجُ عن إجراء شكلي، أي من خوارزمات تشتغل داخل برنامج معلوماتي، وخاصيتها أنها تولد النص انطلاقا من عناصر تحت نصية تولَّفُ من خلال عملية تلعب فيها العشوائية دورا أساسيا.

ويمكن لهذه العناصر التحت-نصية التي اقترح البعضُ تسميتها بـ «نُصَيْصَاتٍ»، في إشارة إلى إلكترونات الفيزياء، أن تكون ذات أحجام مختلفة.، فتكون نُصيصات بعضُ المولدات جملا أو أبياتا، أو حتى فقرات أو موشحات، وفي هذه الحالة تكون البرامج بسيطة للغاية مادام يتم إنشاء تركيب الجُمل في البداية، فيكفي توليفها وفقا لمعايير معينة لإنتاج ملفوظات جديدة، يمكن تسميتها أجزاء نصية صغيرة «scriptons» في تقابل مع «نُصيصات». كما يمكن ألا تكون حظوظ نجاح التوليف كبيرة، وذلك عندما يتخذ من عناصر مستوى الكلمة، أو حتى من مستوى المقطع اللفظي أو الحرف أحيانا، نُصيصات له. وفي هذه الحالة، تتضاءلُ كثيرا فرصُ التوليد العشوائي لنص متماسك، بل وقد تنعدم عمليا.

لم تكن أولى البرامج المعلوماتية لإنتاج النصوص سوى إجراءات مسَلْسَلَة لهذه الوحدات الأولية، فكانت النصوص الناتجة قلما تكون مقروءة، ما لم تكن غير مقروءة كليا، كتلك التي كان ينتجها «مهندسو علوم المضاربة» بجزيرة Lagado في رحلات غوليفير جوناثان سويفت (1726). وفي رواية الليتيراترون(17) Le littératron، يتموقع إسكاربيت في نفس الخط الساخر عندما تخيل حاسوبا ينتج خطابات سياسية انطلاقا من محادثات الـكونتوار(18). ولكن يمكن أن تكون هذه اللامقروئية مطلوبة عندما تندرج في حركة احتجاج ضد الخطاب الأدبي السائد، وبل وحتى ثورة ضد ما سماه بارث مرة ذات يوم بـ «فاشية اللغة». ويكفي هنا أن نذكر ملصقات تريستان تزارا أو ـ تقطيعات(18ب) ويليام بوروز. فبهذا الإرث ولَّد ثيو لوتز نصوصا بالحاسوب، سنة 1959، انطلاقا من الكلمات المائة الأولى من رواية القصر لكافكا أو «أخذ عينات سرية» التي جمعها جاك دونغي سنة 1996 في مجلَّد بعنوان Tag-surfusion(19).

عندما لا يخضع التوليف لأي أمر، فهو يسمى «عامليا»، فتكون قوة توليده آنذاك قصوى، ولكنه ينتج الكثير من الضوضاء واللاقراءة. يمكن لعناية خاصة باختيار النصيصات أن تعيد إدخال أثر مقروئية. في عمل بعنوان تركيب رقم 1، كتبَ مارك سابوترا رواية من 150 صفحة على شكل ملف وفقا لهذا المبدأ: يُطلبُ من القارئ قراءة الصفحات عشوائيا، كما تسحبُ العرافة بطاقاتها لتقرأ الغيب . إذا كانت النتيجة من ذلك عملا مقروءا، فذلك لأن المقاطع التي كتبها المؤلف تشكل وحدات قراءة ذات حجم كاف لتكون متسقة.

وهناك نوع ثان من التوليف، أقل قوة لكنه غزير الإنتاج، وهو التوليف «اللوغاريتمي». في هذه الحالة، تقسَّم النصيصات إلى فئات تناط بها مكانة محدد في النص. ويسمح هذا الترتيب بتحكم أفضل في ترتيب الملفوظات. وعلى هذا المبدأ كتَبَ ريمون كينو عمله مائة ألف مليار قصيدة. وهذا النص الذي نُشر في البداية في نسخة ورقية هو الآن متاح على الحواسيب بفضل عمل أنطوان دونيز(20). والسوناتات المنتجة انطلاقا من نصيصات من مستوى البيت الشعري كلها مقروءة، حتى وإن كان فيها قسم كبير من الفانتازيا والمفاجأة. هذه التوليفية هي إذا أقل تطرفا من سابقتها. فهي تحاول أن تشتغل على إبداعية اللغة بدلا من رفض قواعدها. والنتيجة أنها تنتجُ عددا مُذهلا من النصوص، بحيثُ يمكن اعتبارها آلة إنتاج قصائد، ولكن بأعداد محدودة؛ صحيح أن هذا العدد، على الرغم من محدوديته، يقدم ما تتطلب قراءته مائتي مليون سنة (بقراءة متواصلة ليل نهار، وبدون توقف).

ولكن تحدي المقروئية الحقيقي هو ذلك المتمثل في محاولة توليد نصوص انطلاقا من عناصر تحت جملية، أي من معجم ونحو. وتمدُّ اللسانيات البنيوية هذه العملية بأساسها النظري، إذ تقدم أعمال نعوم تشومسكي في النحو التوليدي أو أعمال كلود بريمون أو أ.ج. غريماس في بنية السرد مناهج للتحليل تصف توليد ملفوظات في اللغة بنموذج خوارزمات قابلة للصياغة على شكل قواعد يفهمها الحاسوب. وبناء على هذه التطورات النظرية، سعى أعضاء مجموعة ألامو (جمعية الأدب المدعوم بالحاسوب والرياضيات، التي تأسست في 1981) إلى تطوير برامج سَمَّوها «برمجيات أدبية» يمكن أن تولد تلقائيا نصوصا في نوع محدد من أنواع الخطاب. وجان بيير بالب، عضو مؤسس في ألامو، هو الذي استكشف هذا الخط إلى أبعد حد، وأغناه بوجهة نظر براغماتية وبنهج أكثر تجريبة واستكشافا، إذ تستطيع مولداته إنتاج نصوص في جميع أنواع الخطاب وبكل الأساليب، من القول المأثور إلى الرواية والواقعية، ومن الهايكو إلى نص الأوبرا. ويعمل كتاب آخرون في الاتجاه نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية، والبرتغال، وإيطاليا، وغيرها.

وتعتبر النصوص التي يُنتجها التوليد التلقائي مُذهلة، إذ يقرأها القارئ ويتلقاها دون أن يشعر بأي أثر للآلة. والتحدي الوحيد هنا يكمنُ في إنتاج نصوص تُحاكي نصوصا بطريقة التحايل.

ولكن فائدة هذا الأدب ليست فقط في نوعية النص المنتج. فالجودة، في الواقع، أقل إثارة من الكم، ومن ثمة فما يُدهشُ في الحاسوب أساسا هو قدرته على توليد نصوص وفق الإرادة. ويدعو هذا الفيض الذي يتجاوز القدرات البشرية ويثبط محاولات القراءة إلى الاهتمام بعملية توليد النصوص أكثر من الاهتمام بالمنتوج نفسه، وبذلك يوجد  إبداع الفنان كلُّه في بناء الجهاز، وفي اختيار البنيات النصية أو الـجُمَلية، وفي تطوير طرائق شكلية، في تصميم البرنامج. أصبح النص ثانويا، ومجرد انعكاس المتكرر إلى ما لانهاية لمصفوف أو قالب أولي. وتذكر هذه الكتابة المصفوفة ببول فاليري الذي تكشف دفاتره إلى أي حد كان مهتما بعمل ذهنه أكثر من اشتغاله بالقصيدة اللامكتملة. في هذا المعنى، فتوليد النص هو شعرية، على أن يُفهمَ من الشعرية مجموعُ القواعد المتحكمة في الإنتاج الأدبي، أكثر منه جمالية للتلقي، بما أن البرنامج وحده هو ما يهمّ ويتعذر على القارئ أن يصل إليه.

إزاء ما سبق، هل يمكن الحديث عن أدب؟ أيمكن أن يكون هناك أدب لا يستند إلى أعمال محددة ولا يمكن إعادة قراءته؟ مع أن البعضَ اعتبر البرمجة فنا من «الفنون الجميلة»(21)، فإنه يبدو من الصعب اعتباره نوعا أدبيا. والخطر المحدق بالأدب هنا شبيه بنظيره في فن الرسم عندما يفضل بعض الفنانين التركيب المؤقت، أي السيرورة، والزائل أو المفاهيمي على حساب الكائن المرسوم. ولكن هنا قد يتعين قبول أن الأدبية لم تعد هي البحث في النص عن هذا الموضوع أو ذاك من المواضيع التي علمتنا ثقافة الورق عزله وتثمينه، ولكن يجب البحث عنها في السيرورة التي تولد هذه الأدبية في تجددها الدائم. من جمالية الشكل، بالتالي فالتوليد ينقلنا إلى جمالية التدفق.

 

  1. الشعر المتحرك

النوع الثاني هو الشعر المتحرك، وهو نوع ينحدر من «الكتابات التصويرية» في العصور الوسطى أو، أكثر قربا منا، إلى الشعر البصري، ويسعى إلى إبراز الوجه المحسوس للعلامات اللغوية في الإبداع الشعري، وبذلك فنصوصه تُعرض للمشاهدة أكثر منها للقراءة، ومن ثمة يمكن إدراجها تحت فئة فن المرئي.

تعين انتظار حصول تقدم في تكنولوجيا المعلوماتية على صعيد عرض الرسومات لكي يهتم المبدعون بالإمكانات الجديدة التي يقدمها جهاز الحاسوب في مجال الشعر البصري، ثم في الشعر المتحرك بعد ذلك. فقد ظل الحاسوب لفترة طويلة آلة للحساب لا تتوفر على أي وسيلة أخرى لتمثيل الحروف عدا تحويلها إلى أرقام. من المؤكد أنَّ مختلف الخطوط قد أغنت العرض التيبوغرافي للنصوص تدريجيا، ولكن ليس بما يكفي لمنافسة المطبعة التقليدية ولا تقنية الأوفسيت. أما اليوم، فقد تغير الوضع، وأصبح الشعر الرقمي يعرف كيف يستغل كل إمكانات العرض والتحريك باستعمال الحاسوب، بحيث لن نتردد في القول بأن شكلا شعريا جديدا قد نشأ وإنه واعدٌ كثيرا.

وفكرة الاستفادة من عرض النص لإنتاج آثار شعرية ليست فكرةً جديدة، ومن هذه الوجهة للنظر لم تكن المحاولات البدائية الأولى سوى قوس. فقد أولت أقدم الحضارات دائما اهتماما خاصا لشكل الكلمات وترتيبها في فضاء كتابتها. ودون إثارة الكتابات الرمزية (الإيديوغرامية) الصينية أو اليابانية، تجدر الإشارة إلى أن حضارتي الكتابة الأبجدية في اليونان قد أولتا بالفعل اهتماما خاصا بالتنظيم المادي للعلامات. ومنذ «القصائد التصويرية» الكارولنجية إلى كاليغرامات أبولينير، مرورا بتجربة مالارميه في الشعر السمفوني، والشعر يسعى إلى أن ينيط بالعلامات اللغوية وظيفة تتجاوز التمثيل الاعتباطي إلى المواكبة والمساهمة في إنتاج المعنى والتأثير الشعري. وفي الآونة الأخيرة، اقترح جيروم بينيو جمع إنتاجات الشعراء المعاصرين المندرجين في هذا الخط تحت اسم «الشعر التيبوغرافي». وبذلك تم الجمع تحت هذه التسمية الموحية بين أنصار الشعر البصري والشعر الفضائي (أو المكاني) والشعر الملموس وجميع أولئك الذين يرون أن التيبوغرافيا جزء لا يتجزأ من الإبداع الشعري.

وقد اجتمع رواد الشعر الرقمي بفرنسا حول فيليب بوتز في مجلة Alire. صدرت هذه المجلة للمرة الأولى على قرص مرن ثم على قرص مدمج، ونشرت أعمالا من مختلف الأنواع، وميزتها الرئيسية أنها موجَّهة للقراءة على الشاشة وليس على الورق، لأنه إذا كان هؤلاء الشعراء يندرجون في خط الشِّعر التيبوغرافي، فهم لا يكتفون بإعادة إنتاج النص على الشاشة كما يُطبع على الورق، مهما بلغت كثافة هذا العرض الورقي. فباستغلالهم للإمكانات التي تتيحها البرمجة، انتقلوا من إعداد الصفحة على الورق إلى إخراجها، وبذلك لم تعد القصيدة جامدة، بل ديناميكية، وأصبح عرضها يخضع لسيرورة زمنية تجعلها تظهر ثم تتحول أو تتبخر، تؤدي أشكالا وإيقاعات بصرية، وتستجيب أحيانا لطلبات القارئ من خلال التفاعل بالماوس.

 

في الشعر المتحرك، تكون العينُ هي أوَّلُ ما يثيرهُ فضاء الشاشة الذي يُعرضُ فيه النصّ، ومن ثمة تكون القراءة رحلة للعرض الفضائي بحثا عن المقروئية. ولكن يمكن للبعد الزمني للعرض أن يقيِّدَ هذه القراءة بفرض وتيرة تمضي أحيانا إلى حد منعها. وبذلك يتم فصل النص المقروء عن النص المبصور، لأن كل أداء للقراءة يُحدثُ قراءة فريدة. ويتعزز هذا التفرد أيضا عندما يستطيع القارئ أن يتفاعل مع النص. ففي هذه الحالة، يستطيع الحاسوب أن يُفسِّر حركات الماوس (أو أي جهاز آخر لإدخال المعلومات كما هو الحال في بعض التجهيزات)، وبالتالي أن يُعَدِّلَ عملية تنفيذ البرنامج. وهنا نجد بعض خصائص الشعر الشفوي الذي يعتمد على ظروف إلقائه، ويخضع لإيقاع منشده وشارحه وردود فعل جمهوره. ولكن إذا كان الشعر الرقمي يستغل البعد الصوتي للقصيدة أحيانا، فإن هذا الشعر يعني بذلك أنه يقع تحت علامة المرئي بالخصوص. فالشعر يعرض نفسه على الشاشة لكي يُبصَرَ وهو يتحرك، وبالتالي فهو لا ينفصل على حامله ولا يمكن إلقاؤه ولا قراءته دون أن يفقد جوهره.

من الشعراء الآخرين الذين يستكشفون هذه الأشكال الشعرية الجديدة، يمكن ذكر كلود فور وكلماته المتحولة، وإدْوارْدُو كَاكْ مؤلف قصائد ثلاثية الأبعاد أو بييير فورني مبتكرُ خط يسمى «المذنب» لأنه يتيح تبديل أنصاف حروف مقطعة أفقيا لخلق تأثيرات بصرية ومتحركة تستغل الانزلاقات الدلالية الناتجة عن إعادة تركيب الكلمات. وبذلك، لا شك أن مستقبل هذه الكتابات للعلامة على جهاز الكمبيوتر يتوقف على توفير أدوات سهلة تُعفي الشعراء من تعلم مملّ لإحدى لغات البرمجة. وقد بدأ التطور السريع الذي عرفته بعض برامج التحريك – كبرنامج فلاش ماكروميديا – الموجهة للنشر التجاري على الشبكة يُعطي ثماره.

الآن وقد أصبح النصُّ الشعري يُعرَضُ على الشاشة، ويتحركُ في فضائها، يتعين عليه أن يواجه منافسة الوسائط الأخرى، لاسيما أنه صار يضعُ القارئَ في موقف المتفرج، ويدعوه لحفل من العلامات لا تكون اللغة المكتوبة فيها سوى عنصر بين عناصر أخرى، ما يمحو النصَّ لفائدة شكله، ويُهَدِّدُ الأدب في تصميمه.

 

  1. 9. الأعمال التخييلية التشعبية:

أخيرا، يسعى النوع التفاعلي إلى تلبية رغبة قديمة جدا لدى بعض الكتاب في التفاعل مع قرائهم داخل العمل الأدبي نفسه. فعن طريق إدخال القارئ في الجهاز النصي، وجعل هذا المتلقي جزءا لا يتجزأ من نظام الحكي، يتنازل المؤلف عن بعض امتيازاته للقارئ. وعلى شبكة الإنترنت، يتم أيضا تعديل المثلث مؤلف / نص / قارئ بطريقة أخرى، إذ يمكن للمؤلف أن يدعو القارئ إلى مكتب عمله، فيصير هذا الأخير أحيانا كاتبا، كما يمكن للكتابة أن تصير نشاطا تعاونيا أو جماعيا. وبترديد الاصطلاح الذي ابتكره رولان بارث في إشارةٍ إلى بعض النصوص الطليعية(22)، يمكن إطلاق اسم النصوص القابلة للكتاب  (أو المنكتبة) على النصوص الناتجة عن هذه الممارسات الجديدة.

كان النص التشعبي، بالمعنى المعلوماتي للاصطلاح، في البداية أداة بحث وثائقية موجّهة لتسهيل تصفح قواعد البيانات بكيفية متحررة من قيود الهيكلة الجامدة ومن لغات البحث المبسطة. ولكونه مصمَّما على غرار الموسوعة، فقد أدى استخدامه على نطاق واسع في شبكة الإنترنت إلى انتشار عشوائي، وخارج عن نطاق السيطرة، للروابط التشعبية التي تُلقي بالقارئ في متاهة حقيقية. وللتغلب على هذا الشعور بالارتباك، تمَّ تصميم بعض الأدوات (محركات البحث)، والبنيات (البوابات) لإعادة تأطير الروابط والحد من استخدام القارئ للروابط التشعبية أثناء بحثه عن المعلومات.

أما الأدب، فلا يخضع للشروط نفسها وليست مهمته تسهيل البحث عن معلومات. فهو على العكس يستكشف أشكالا جديدة وحوامل جديدة، ويبحث عن مواد كفيلة بتطوير خياله. وهذا هو السبب في كون النص التشعبي أغرى الكتاب بسرعة كبيرة قبل ظهور شبكة الأنترنت. ففي عام 1985، نشر مايكل جويس نصه التشعبي التخييلي الأول قصة الظهيرة على قرص مرن. وفي الأعوام الموالية، حذا حذوه العديد من الكتاب الأمريكيين، باستعمال برنامج معلوماتي متطور لكتابة النصوص التشعبية التخييلية صممه معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا اسمه فضاء الحكي. وقد تضاعفت أدوات الكتابة اليوم، على شبكة الأنترنت بالخصوص، وتطور النص التشعبي التخييلي في فرنسا، إذ كانت دار النشر 00h00 هي أول من أصدرت في عام 2000 تجميعة من النصوص التشعبية الأدبية، كما شرع كتاب معروفون أمثال رونو كامو(23) في نشر نصوصهم التشعبية الأدبية في شبكة الأنترنت.

ليس النص التشعبي الأدبي في الواقع سوى التحقيق المادي لاتجاهات كانت موجودة بالفعل في الكتاب الكلاسيكي. أول هذه الاتجاهات هو اللعب بخطية الوسيط. فالأدب الشفوي خطيٌّ لأنه يفرض على متلقيه استماعا مستمرا دون إمكانية العودة إلى الوراء. ولكن ما دام هذا الأدب يكون مرتجلا، فهو يسمح بمتغيراتٍ أو تنويعات، لكن لا يعرفها سوى الحكواتي، وهو وحده من يستطيع أن يتخذ خيارا من بينها. أما المستمع، فلن يسمع هذه التنويعات إلا في حلقة أخرى للحكي. ومع ظهور الكتاب وولادة مفهوم المؤلِّف، عزز هذه الخطية جهاز القراءة المادي الذي يفرضُ ترتيبا ثابتا لصفحات الكتاب ويرفض المتغيرات. وقد أراد بعض الكتاب أن يتحرروا من هذا الجمود من خلال منح القارئ إمكانية لاختيار مسار قراءته، فعبر جاك روبو، على سبيل المثال، عن هذه الرغبة بوضوح عندما وضع لكتابه حريق لندن الكبير عنوانا فرعيا هو: «قصة بمقاطع وتشعبات». والتشعب في النص التشعبي هو إمكانية تسمح للقارئ بترك خط سردي وأخذ خط آخر عن طريق النقر على كلمة أو جملة، وبناء مسار شخصي للقراءة كلما قدم المؤلف وصلة من هذا النوع. وينتمي القطعُ للآلية نفسها، ولكنه يبدو أشبه باستطراد، أو مشي على هامش مسيرة السرد، وفرصة لوصف مشهد، واستحضار ذكرى، وما إلى ذلك. وفي الحالتين، يمد النص التشعبي نهجا بأداة يجعلها الورق محفوفة بالمخاطر.

تميل هذه الحرية التي تقدم للقارئ إلى جعله متحدثا حقيقيا، بل وحتى متواطئا في صياغة النص المعروض للقراءة. وليس هناك مؤلف لم يُراودهُ إغراء الدخول في حوار مع قارئه، أحيانا ليحصل على موافقته أو لنيل مُجاراته، وأحيانا ليدله على الطريقة الصحيحة لقراءة الكتاب. ولا شك أنَّ لورنس ستيرن في كتابه تريسترام شاندي ( (1767 هو من دفع الخيال التفاعلي هنا إلى أبعد حد من خلال كثرة مخاطبته للقارئ. هل يتيح النص التشعبي هذه الرغبة العميقة أكثر من النشر الورقي؟ لا شك في ذلك، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الإمكانات التي يتيحها النص التشعبي لهذا الجانب. فهو أولا يسمح بتكييف النص مع ملامح القارئ من خلال تقديم مسارات عديدة واضحة للقراءة وتمكين هذا القارئ من اختيار ما شاء منها. ومادامت هذه الخيارات تضاعف بشكل كبير المسارات المحتملة، فالمؤلف يعجز عن التحكم فيها كليا، وبذلك يجد القارئ نفسه قد حصل على دور جديد، أقل سلبية مما كان عليه في القراءة التقليدية، فيصبح مؤلفا مشاركا، على الأقل في بنية النص الفوقية.

أكثر من ذلك، يستطيع القارئ في الأعمال التخييلية التشعبية الأكثر تطورا أن يصبح جزءا من النظام التلفظي دون أن يعلم بذلك، إذ يقوم البرنامج بتكييف النص القادم من خلال أخذه بعين الاعتبار لأفعال القارئ. على سبيل المثال، في برنامج فضاء الحكي(24)، تسمح التعليمات البرمجية بمنع الوصول إلى بعض مقاطع النص التشعبي ما لم يمر القراء من هذا المقطع أو ذاك، كما يمكن للنقرة بالماوس على هذه الكلمة، أو اختيار هذا المسار، أو هذا الجواب أو سؤال ما، يمكن لذلك كله أن يفضي إلى قراءات مختلفة كليا. وعندما يجعل النص التشعبي القارئ في مركز الجهاز، أو يجعله أحيانا حتى شخصية في الحكاية، فهو يميل إلى لعب المغامرات. وبذلك، فهو لا يملك سوى اقتراح ديكور يصبح القارئ فيه ممثلا حيا هنا والآن في حكايته الخاصة على طريقة اللعب الدرامي. وليس بوسع تطور الألعاب على الشبكة سوى تأكيد المضي في هذا الاتجاه. ومع الكرافيزم الثلاثي الأبعاد، يفلت الديكور نفسه من النص.

 

  1. 10. نحو أدب الومضة

لم تؤد رقمنة الأدب اليوم إلى ظهور أنواع جديدة أو تطوير أعمال تجريبية فحسب، بل وأُحدثت في الوقت نفسه اضطرابا في الحقل الأدبي من حيث أشكال إبداعه ونشره وتلقيه. فشبكة الأنترنت تقدم الآن بديلا عن الحلقات التقليدية للنشر وتهدد قطاع الكتاب بأكمله. وتأخذ المشكلة بُعدا اقتصاديا، بسبب الدوائر القصيرة التي تُدخلها الشبكة في سلسلة توزيع الأعمال الأدبية، وبُعدا ثقافيا بسبب اختفاء مهام الوساطة بين المؤلف وقرائه. ففي مجال النشر التقليدية، تُنظم العلاقات بين أقطاب النظام الثلاثة، وهم المؤلفون والناشرون والقراء، مدوناتٌ قانونية واجتماعية وثقافية راسخة، يؤدي الناشر فيها دورا مركزيا من خلال اضطلاعه بمهمة الوسيط بين المؤلف والقراء ومساهمته في ضبط العرض والطلب عبر تمكين الأعمال الأدبية من الوصول إلى قرائها. ورغم أنه يمكن مناقشة اختيارات الناشرين أحيانا والأسف لأنهم كثيرا ما يلقون في الظل بكتَّابٍ فيُحرمونهم جراء هذا الإقصاء من الوصول إلى القراء، فمما لا شك فيه أنَّ الناشر يقوم بدور رئيسي في مواكبة عملية وإخراجها إلى حيز الوجود. ولكن، بتخلص النص الرقمي من القيود المادية للنشر الورقي، فهو يميل في الوقت نفسه إلى التخلص من هذه الوساطة الثقافية. وفي هذا التشكل الجديد، يمكن أن تظهر حالات عديدة بارزة. وبصرف النظر عن الأشكال التي قد تأخذها هذه الظاهرة الجديدة، فهي تؤثر على العلاقة بين الكاتب والقارئ، كما يتضح من بضع الأمثلة التالية:

في يوليو 2000، أطلق ستيفن كينغ تحديا لعالم النشر، فاقترح على قرائه أن يُنزلوا روايته الجديدة The Plant من شبكة الأنترنت مقابل دولار واحد لكل حلقة، فخاطبهم من موقعه على الويب بما يلي: «لدينا فرصة لكي نصبح أسوأ كابوس للناشرين الكبار». لكنه في نونبر من العام نفسه، أعلن بنبرة تدعو إلى الرثاء نهاية التجربة، إذ تناقص عدد القراء بتزايد نشر الحلقات، وتناقصت مداخيله. انخفض عددهم من 120000 إلى 40000. وتعتبر حالة ستيفن كينغ خاصة. لأنه مؤلف شهير، وظنَّ أنه سيبربح المزيد من المال (وليس القراء) بتخطي ناشره. ولكن يرى كاتبٌ شهير أن هناك عشرات، بل مئات من المؤلفين الذين رفضهم الناشرون فوجدوا في شبكة الإنترنت فرصة للعثور على جمهورهم، كما يظهر ذلك بما يكفي في المواقع المخصصة للشعر أو القصة. وتُرافق ظاهرة النشر الذاتي أيضا في بعض الأحيان وظيفة تحريرية نشرية تقوم بها مواقع بوابات، تسمى حلقة مواقع أو ناشرون على الخط. من هذه الزاوية للنظر، تلعبُ منشورات 00h00 (أو الساعة الصفر) دورا وسيطا من خلال نشرها إلكترونيا لكتَّابٍ ربما لم يكن لهم أن يعثروا على جمهورهم بطريقة أخرى.

وهناك طريقة أخرى للقاء مع الجمهور تتمثل في فتح فضاءات للنقاش في شبكة الأنترنت حول كاتب ما أو عمل ما. هكذا، فرونو كامو الذي نشرت كتاباته أيضا منشورات P.O.L.. لم يكتف بنشر نسخة نص-تشعبية من كتابه (إعلان صغير) في موقعه، بل ووضع على الخط أيضا مقالات الجدل حول كتابه حملة فرنسا. ويبدو أنَّ هذا الحضور للكتاب في شبكة الأنترنت يشكل الآن ظاهرة عامة تندرج في خط التقليد المسمى ببريد القراء.

ولكن هناك ما هو أكثر. فبالتحرر من المواعيد التي تفرضها عملية تصنيع الكتب، يميل النشر على شبكة الأنترنت إلى إلغاء المسافة بين المؤلف وقرائه من خلال تقريب زمن الكتابة من زمن استهلاكها، بل ويسمح في بعض الحالات حتى بإقحام القراء في عملية صياغة العمل الأدبي. ويُعتبر إحياء المسلسل على شبكة الأنترنت مثالا جيدا على هذا الوضع الجديد. وهكذا، فقد كان الكاتب جاك جُوي أول كاتب فرنسي ينشر يوميا في موقع منشورات P.O.L. حلقة من الحلقات الـ 245 التي تتألف منها روايته جمهورية ميك أويس، كما اقترح الكاتب مارتن وينكلر على قرائه أن يوافيهم يوميا بحلقة من روايته المسلسلة التي تحمل عنوان عنوان ملاحم(25).

ومع أنَّ هذه الممارسة تجدد الصلة بممارسة الكتابة المسلسلة، فهي تظل تقليدية إذا ما قارناها بالإمكانيات التي تتيحها شبكة الأنترنت للكتاب، كالتواصل المباشر من خلال تقنية الويب كام. فقد ضرب الكاتب البرازيلي ماريو براتا موعدا لقرائه خلال صيف عام 2000 ليعاينوا كيف يكتب نصوصه. وفي الآونة الأخيرة، اقترح الأمريكي أولن بولتر، الحائز على جائزة بوليتزر، على قرائه 19 حصة للكتابة كشف النقاب خلالها عن تقنيات كتابته الإبداعية وقام بتنفيذها(26). هكذا، وبدعوة القارئ لمائدة الكاتب، يتم إدخال المتلقي إلى المكتب الخلفي للإبداع الأدبي فيصبح شريكا فيه. ويلتقي هذا مع ما سبق أن كتبه والتر بنجامان. عندما قال: «تميل العلاقة بين المؤلف والجمهور إلى فقدان طابعها الأساسي، إذ لم تعد سوى علاقة وظيفية. يمكنها أن تختلف من حالة لأخرى، ويستعد القارئ إلى الانتقال في أي لحظة إلى كاتب»(27). ومع الإنترنت، تمَّ اقتحام هذه الخطوة، إذ قبل بعض الكتاب أن يمدوا أيديهم إلى قرائهم لكي يتابعوا العمل وهو في طور التكوين أو لكي يُغنوه. وبمبادرة من موقع فرانس لوازير France loisirs، قام يان كوفيليك وإيرين فرانس هما الآخران بدعوة قرائهما لإتمام كتابة فصل منشور على الأنترنت. وبفضل رسائل البريد الإلكتروني والمنتديات والدردشات التي نظماها لفائدة هؤلاء القراء، نشأ تعاون أسفر عن نشر روايتين(28). وبروح مختلفة جدا، جمع جان بيير بالب خلال صيف عام 2001 بين الكتابة المسلسلة والتفاعل مع قرائه.

وبشكل عام، تشجع شبكة الإنترنت القراء على ارتياد الكتابة والنشر. ويشهد كل من إحياء فن المراسلة، وانتشار الصفحات الشخصية، وتكاثر مواقع الشعر أو القصة، على دمقرطة الكتابة بفضل إمكانيات النشر الذاتي الجديدة إلى درجة أنه قيل، وعلى شكل مفارقة، إن في الأنترنت من الناس الذين يكتبون أكثر مما فيه من الذين يقرؤون. ومما له دلالة في هذا الصدد تجربة مثل: Websoap التي تعدّ من التجارب المهمة في المجال. فلمدة ثلاثة أشهر، كتب ثمانية كتاب – تم جمعهم من خلال إعلان قصير – رواية جماعية بالبريد الإلكتروني قريبة من لعبة تبادل الأدوار، ولكن مهمة كل واحد منهم تجاوزت الكتابة إلى قراءة رسائل الكتاب الآخرين، وبذلك أنفق كل مُشاركٍ، لاسيما في نهاية التجربة، وقتا في قراءة كتابات الغير أطول مما أنفقه في كتابة إسهاماته الشخصية. لم يقرأ تلك التجربة سوى عدد قليل من القراء من خارج جماعة الكتاب، وبذلكَ جرَتْ في مدار مغلق، وألغت المسافة بين الكتاب والقراء، وخلقت على نحو ما عَمَلا دون قراء تقريبا.

 

  1. 11. خلاصـة:

يوجدُ الأدب اليوم في أزمة، وهو يرى وصول الرقمية أولا باعتباره تهديدا وخطرا. كما أنَّ رقمنة التراث الأدبي المدعوة للاستمرار ليست مجرد مشروع لحفظ الأعمال، بل تُدخل طرائق جديدة للقراءة يمكن أن تثير مخاوف من التخلي عن القراءة المكثفة لفائدة قراءات موسَّعة. فهناك ممارسات جديدة ترى النور اليوم وعادات جديدة تتشكل، ولا يقوم الأدب هنا سوى باتباع حركة أشمل، يَلحقُ التغييرُ فيها جميع الوسائط، ويجعل من القارئ مستهلكا يُبحر بحثا عن المعلومات، ويمارسُ أشكالا جديدة من امتلاك المعرفة، ويبحث عن ملذات فكرية جديدة. ولكن تاريخ الوسائط يعلمنا أنه نادرا ما ألغى وسيطٌ جديدٌ وسيطا قديما، وبالتالي، لن تؤدي رقمنة الأدب إلى اختفاء الكتاب كما لن يؤدي النص التشعبي إلى اختفاء القراءة الخطية.

يرافق هذا التنويع في استهلاك الأدب تطوير جديد لطرائق إبداعه، كما يؤدي النص الرقمي إلى ظهور أعمال جديدة من أجل أن تُقرأ خارج عالم الكتاب. وبمغادرة الأدب لحامله التقليدي، فهو يُغامرُ باستكشاف أشكال جديدة سبق أن حدَسَها أو تمناها بعض الكتاب، ولكنها بقيت «أخيلة» بالمعنى الذي يعطيه بورخيس للكلمة في مجموعته القصصية الصادرة بالعنوان نفسه [أخيلة]. فكتاب الرمل، على سبيل المثال، أصبح واقعا مع التوليد الأوتوماتيكي للنصوص، وحديقة الممرات المتشعبة أو فحص عمل هربرت كوين(30) تصوَّرا النص التشعبي قبل ظهوره. وقصائد تريستان تزارا أعلنت عن الشعر المتعدد الوسائط. وكثيرة هي الأمثلة التي توضحُ الرغبة في الخروج من الأشكال الأدبية التي يحددها حاملُ الكتاب أو نوعا من «تعب الورق»، بتعبير عنوان أحد أعمال فردريك دوفُلاي(31). وقد يكون الخطر هنا هو الاعتقاد بأن الرقمية تمكِّنُ من الإجابة عن هذه التيارات التي تمر عبر الأدب، والاعتقاد بأن الحامل الجديد سوف يطلق العنان في النهاية لهذه الرغبات القديمة. وقد يكون الحديث عن التحرير، كما فعل بعض المؤلفين الأمريكيين بصدد النص التشعبي، تجاهلا لفضائل القيود في الإبداع الأدبي. على العكس من ذلك، ففي المواجهة مع خصائص الوسائط المتعددة، يمكن أن ينشأ أدب جديد. ولكن سيتعين الاعتياد على عدم تحديد العمل الأدبي الكف في علاماته المميزة القديمة. فتوليد النص يُنتجُ تدفقات أو سيرورات أكثر مما يُنتجُ نصوصا، والشعر المتحرك يُلغي أسبقية النص لفائدة بيئته المتعددة الوسائط، وفي النص التشعبي، يتعاون المؤلف مع قرائه في إنشاء مسارات حكي فريدة وغير قابلة لإعادة الإنتاج، بينما تنشأ في الشبكة أشكالٌ جديدة من التواصل ومن تشارك الكتابة. هل يجب اعتبار هذا المشهد الجديد للإبداع الأدبي مكانا يتحلل فيه هذا الإبداع من خصوصيته أم مكانا لانبعاث جديد؟ هل سيبقى هذا الأدب تجريبا أم سوف يجد جمهورا له؟ من المبكر جدا الإجابة عن هذا السؤال (أو ربما من المتأخر جدا، سيظن أولئك الذين لا يرون فيه سوى شرارة صغيرة وسط حريق هائل). ليس هناك إبداعٌ دون مخاطرة، وقد يكون هذا هو ثمن بقاء الأدب على قيد الحياة.

جان كليمون Jean Clément

أستاذ بشعبة الوسائط التشعبية

جامعة سان دُني (باريس 8)

 

هوامش

(1) تقرير لجنة كوردييه حول الكتاب الإلكتروني الذي رفع إلى وزيرة الثقافة كاترين تروتمان واضحٌ في هذا الصدد، إذ يهيمن عليه خوف معظم أطراف حلقات صناعة الكتاب، ويظل من ثمة محصورا في اعتبارات اقتصادية وأخلاقية دون أن يتناول القضايا العميقة المتعلقة بطبيعة الأدب الرقمي. هذا نص التقرير:

http://www.culture.fr/culture/actualites/rapports/cordier/intro.htm

(2) Grand prix ex-æquo: David Maranis pour When Pride still mattered et E.M. Schorb pour Paradise square.

(3) يتألف ما يصطلح على تسميته اليوم بالفنون الرقمية من مجرة شاسعة متحركة بدأ التفكير فيها للتو من وجهة نظر إبستمولوجية. انظر مثلا كتاب جان بيير بالب:

– Jean-Pierre Balpe, Contextes de l’art numérique, Hermès, 2001.

(4) يكفي هنا أن نتذكر السجال الذي أثاره باحثون مثل ريفاتير وتودوروف ضد تطبيق أولى الدراسات المعجمية بالحاسوب على أعمال أدبية.

(5) توجد برامج معلوماتية للتعرف بصريh على الحروف (O.C.R.)، وتتيح الانتقال من صيغة الصورة إلى صيغة النص.

(6) CHARTIER (R.) – Le livre en révolutions. Entretiens avec Jean Lebrun, Seuil, 1997.

(7) CLÉMENT (J.) – «Le e-book est-il le futur du livre?», in Les savoirs déroutés, Presses de l’enssib, 2000.

(8) KRISTEVA (J.) – Sèméiôtiké, Seuil, 1969.

(9) CLÉMENT (J.) “Hypertexte et édition critique: l’exemple des romans de Céline”, in Texte, n° 13/14 (1993), Toronto, 1994.

(10) http://www.stephenking.com/

(11) http://promo.net/pg/

(12) http://abu.cnam.fr/

(13) http://un2sg4.unige.ch/athena/

(14) كانت دار النشر  00h00 أوَّل دار سوَّقت كتبا رقمية للتنزيل عبر شبكة الأنترنت.

(15) Voir article de l’encyclopédie.

(16) النماذج المتوفرة حاليا هي Cybook” de Cytale, le “eBook” de Gemstar, le “eCodes” de Codicil et l’”eBookMan” de Francklin، وإليها يجب إضافة نماذج الداعمات الرقمية (Palm Pilot, PhoneReader, etc.) ومختلف تطبيقات القراءة (Palm Pilot, PhoneReader, etc.)، وهي عبارة عن برامج موجهة للقراءة على الشاشة.

(17) ESCARPIT (R.) Le Littératron, Flammarion, Paris, 1964.

(18) انحدرت من برنامج الـ litératron، برامج ـ pipotron، وinsultron، و remercitron، ومولداتٌ أخرى أحصاها موقعُ:

http://www.charabia.net

(18ب) الـ cut-up: تقنية (أو نوع) أدبي ابتكره الكاتب والفنان براين جيزين Brion Gysin وعالم الرياضيات الأنجليزي إين سومفيل Ian Sommerville، وجربه الكاتب الأمريكي ويلميام بوروز، وفيه يتم تقطيع نص أصلي إلى مقاطع عشوائية يُعاد ترتيبها لإنتاج نص جديد. عن موسوعة ويكيبديا الفرنسية، مادة cut-up (المترجم).

(19) DONGUY (J.) – Tag-surfusion, L’Évidence, 1996.

(20) DENIZE (A.) – Machines à écrire , Gallimard Multimédia, Paris, 1999.

(21) LÉVY (P.) –  De la programmation considérée comme un des beaux-arts , La Découverte, Paris, 1992.

(22) BARTHES (R.) – S/Z, Seuil, 1970.

(23)  سُفنٌ محترقة هي نسخة نصتشعبية لكتابه إ.ق (إعلانات قصيرة)، الصادر عن دار النشر P.O.L. في عام 1997:

http://perso.wanadoo.fr/renaud.camus/presentation.html

(24) فضاء الحكاية برنامجٌ معلوماتي لكتابة نصوص خيالية تشعبية، أنتجته شركة Eastgate، ويستعمله كثيرا كتاب الأعمال التشعبية التخييلية الأمريكيون.

(25) http://www.pol-editeur.fr/feuilleton/

(26) http://www.fsu.edu/~butler/

(27) BENJAMIN (W.) – Écrits français , Gallimard, 1991.

(28) ÉLEC (Y.) – Trente jours à tuer , Coédition France Loisirs/Éditions 00h00, 2000; FRAIN (I.) – J’ai trois amours, France Loisirs, 2000.

(29) BORGES (J.L.) – Le livre de sable, Gallimard, 1978.

(30) BORGES (J.L.) – Fictions, Gallimard, 1965.

(31) DEVELAY (F.) – « La fatigue du papier », in Alire, Le salon de lecture électronique, Mots-voir.

 

ببليوغرافيـا

[AAR 97] AARSETH E.J., Cybertext, Perspectives on Ergodic Literature, Baltimore, John Hopkins University Press, 1997.

[ANI 93] ANIS J., LEBRAVE J.L., « Texte et ordinateur : les mutations du Lire-Écrire ».

Actes du colloque interdisciplinaire du Centre de Recherches Linguistiques, ParisX-Nanterre, 6-7 juin 1990, édition augmentée des actes en 1993.

[ANI 98] ANIS J., Texte et ordinateur : l’écriture réinventée ?, Bruxelles, Deboeck Université, 1998.

[ANI 99] ANIS J., Internet et communication en langue française, Paris, Hermès, 1999.

[BAL 95] BALPE J.P., LELU A., SALEH I., Hypertextes et hypermédias : réalisations, outils, méthodes, Paris, Editions Hermès, 1995.

[BAL 97] BALPE J.P., LELU A., NANARD M., SALEH I., « Hypertextes et hypermédias : réalisations, outils, méthodes », Actes de la 4ème conférence internationale H2PTM’97, 25-26 septembre 1997, Paris, Editions Hermès, 1997.

[BER 99] BERNARD M., Introduction aux études littéraires assistées par ordinateur, Paris, PUF, 1999.

[BOL 01] BOLTER J.D., Writing Space : Computers, Hypertext, and the Remediation of Print, Fairlawn, New Jersey, Lawrence Erlbaum Associates, 2001.

[BOO 94] BOOTZ P., « A://Littérature », Actes du colloque Nord Poésie et Ordinateur, Lille, Éditions Mots-Voir et Gerico-Circav, 1994.

[CHR 01] CHRISTIN A.M., L’image écrite ou la déraison graphique, Paris, Flammarion, 2001.

[DEL 91] DELANY P., LANDOW G., Hypermedia and Literary Studies, Cambridge MA, MIT Press, 1991.

[FER 97] FERRAND N., Banques de données et hypertextes pour l’étude du roman, Paris, PUF Collection « Ecritures électroniques », 1997.

[GAG 97] GAGGI S., « From Text to Hypertext, Decentering the Subject in Fiction », Film, the Visual Arts and Electronic Media, Philadelphie, University of Pennsylvania Press, 1997.

[LAN 00] LANCIEN T., « Multimédia : les mutations du texte », Cahiers du français contemporain 6, Paris, ENS Éditions, 2000.

[LAN 97] LANDOW G.P., Hypertext 2.0, the Convergence of Contemporary Critical Theory and Technologie, Baltimore and London, John Hopkins University Press, 1997.

[LAU 92] LAUFER R., SCAVETTA D., Texte, Hypertexte, Hypermédia, Paris, PUF, 1992.

[LEV 97] LEVY P., « Cyberculture », Rapport au Conseil de l’Europe, Paris, Éditions Odile Jacob, 1997.

[MUR 97] MURRAY J.H., Hamlet on the Holodeck, the Future of Narrative in Cyberspace, New York, The Free Press, 1997.

[NEL 93] NELSON T., Literary Machines, Sausalito, Californie, Mindful Press, 1981, réédité et augmenté en 1993.

[SNY 97] SNYDER I., Hypertext : the Electronic Labyrinth, New York University Press, 1997.

[VAN 99] VANDENDORPE C., Du papyrus à l’hypertexte : essai sur les mutations du texte et de la lecture, Paris, Éditions La Découverte, 1999.

[VUI 95] VUILLEMIN A., Littérature et informatique, la littérature générée par ordinateur, Artois Presses Université, 1995.

[VUI 99] VUILLEMIN A., LENOBLE M., « Lecture : de la lecture assistée par ordinateur à la lecture interactive », Littérature Informatique, Presses Universitaires de Limoges, 1999.

 

 

السابق
جان كليمون Jean Clément: وداعا جتنبرغ  / ترجمة محمد أسليم
التالي
بيير ليفي Pierre Lévy:  النـــــــص  التشعبـي مرحلة جديدة في حياة اللغة /ترجمة محمد أسليم

10٬686 تعليقات

أضف تعليقا ←