الشعرُ يُسمَّى ويوصَفُ، يقالُ أو يُكتَبُ، يُقرأ أو يُكتَبُ، يُنظمُ أو يُرتَجَل، يُلقى أو ينشد، يُثير ويهيِّجُ أو يهدئ ويُلطّف، يُحرِّك أو يؤثِّر، يُعجبُ أو لا يرُوق… هل يُعرَّفُ؟ للشعر اسمٌ، وكلمة «الشعر» نفسها المنحدرة من الإغريقية «ή ποίησις» كانت تشير في الأصل إلى «فعل العمل، والصناعة والخلق»، ومن هنا تشير، من باب التوسُّع، إلى إبداع قصائد ومصنفات الشعر («τò πoíηµa») وصناعتها ونظمها.
التعريفُ حشوٌ مُسبق. يكفي تصفح معاجم الشعرية ومعاجم البلاغة أو كتب تاريخ الشعر أو الآداب فنجد أنَّ الشعر – فيما يبدو – يقاوم دائما كل الجهود الرامية إلى تعريفه. هل يرتبط الشعرُ بالتعبير عن عاطفة مُلغزة، أي عن إلهام لا عقلاني وساحر ومُتحمس؟ هل يرتبط بنوعية معينة من الخطاب أم بشكل من أشكال الاستخدام الخاص للغة؟ هل يقترن بموقف من الحياة، هو نوع من الوحي، أم يقترن على الأقل بإدراك مختلف لما يكون في العالم المادي غير متوقع، أي مُفاجئ وغير عاد؟
ولكون الشعر فعلٌ للابتكار والخلق أو إعادة الخلق، بحكم طبيعته أو من حيث تعريفه الأصلي، فهو لا يكف عن إعادة النَّظر في تعريفاته السابقة، ومن ثمة كانت له على الدوام ألف تسمية تقليدية: «ملحمي»، «درامي»، «رثائي»، «غنائي»، «ساخر»، «أورفي»، «هرمسي»، أو «نقي» و«كلي»، و«بصري»، و«سمعي»، و«تشكيلي» أو «ملموس» إن شئنا استخدام بعض تسمياته الحديثة.
وقد انضاف عددٌ كبيرٌ من التسميات الجديدة إلى الاصطلاحات السابقة نتيجة للتقدم المتزايد الذي عرفه قطاع التكنولوجيات منذ عام 1959 تاريخ تأليف حاسوب في ألمانيا لأول «أبيات الشعر الحر الإلكترونية» في تاريخ الأدب. لقد وقع انفجار حقيقي للمصطلحات الجديدة، من الأكثر حيادا إلى الأكثر غرابة، وذلك سعيا لتمييز أصالة هذا الشعر الجديد. فماذا عن هذا الغليان؟ كيف نعثر على سبيل وسط كل هذه الأسماء والتعريفات؟ كيف نستخلص منها طبقات هذا الشعر حسب أجيال الرواد وحسب المعدات المعلوماتية أيضا؟ كيف نعثر من خلالها على الترسبات المعجمية المتعاقبة عندما كانت «الحاسباتُ» في البداية لا تتوفر سوى على طابعات، ثم لما صارت «الحواسيب» بعد ذلك مجهَّزة بشاشات، ثم عندما تكوَّنتْ «شبكات» الاتصالات اللاسلكية المحوسبة أخيرا واندمجت في «الويب» أو شبكة الأنترنت؟
- عن الحاسبات والطابعات (1959 – 1979)
هناك صلة قوية بين التقدم التاريخي للتكنولوجيا وظهور تلك الاصطلاحات الأدبية والشعرية الجديدة. في الواقع، من 1959-1979، لم تكن توجد سوى «حاسبات»، أي أجهزة للحساب والمعاجلة الأوتوماتيكية للبيانات، و«طابعات»، أي آلات طباعة. لم تقبل الأكاديمية الفرنسية إلا في عام 1967 دخول مصطلح «معلوماتية informatique» إلى اللغة الفرنسية ليُشار به إلى «علم المعالجة العقلانية للمعلومة بآلة أوتوماتيكية على وجه الخصوص»، وهو من ابتكار مهندس فرنسي اسمه فيليب دريفوس انطلاقا من دمج سابقتي كلمتي «معلومة » و«أوتوماتيكي». ومن قبل، كان يتم الخلط بين مفهوم «معلوماتية» و«أوتوماتيك»، من جهة، (بالنسبة لـ «علم الروبوتات») وبين «الحساب» و«الرياضيات التطبيقية» (أي الرياضيات التي تُطبقُ على اشتغال الأجهزة الأوتوماتيكية). أما مصطلح «حاسوب ordinateur»، وهو اصطلاح جديد، فقد اصطنعه لغوي اسمه هو جاك بيريت ، بطلب من شركة إي بي إم IBM فرنسا، لترجمة عبارة «المعالج الإلكتروني للبيانات Electronic Data Processor» التي كانت تستعمل آنذاك في اللغة الإنجليزية للإشارة إلى ما يُعرَّف اليوم، بطريقة أكثر فنية وتجريدا، بأنه «نظام لمعالجة المعلومات» أو «نظام معلوماتي». لم تدخل كلمة «كمبيوتر» على الفور في الاستعمال الشائع. بالإضافة إلى ذلك، كانت المعالجة المتقدمة تتمُّ للغة استعمال «حاسبات ضخمة»، وبالتالي فقد كان الوصول إلى المرافق المعلوماتية مقصورا على دائرة ضيقة من المُلمين بمبادئ التعامل معها.
في عام 1959، عندما نجح اللغوي الألماني ماكس بنس بمساعدة المهندس المعلوماتي ثيو لوتز، في صنع أولى «أبيات الحرة الإلكترونية» بواسطة حاسوب في مدينة شتوتغارد بألمانيا الفيدرالية، كانت الحواسيب آنذاك لا زالت تسمى «حاسبات» أو «آلات»، وكان المعلوماتيون يُكثرون من إطلاق اسم «الآلة» على الأجهزة التي يستعملونها. تعتبر هذه التوضيحات ضرورية لفهم كيف ظهرت في ذلك الوقت أولى المصطلحات التي أطلِقتْ على أشكال الإبداع الأدبي التي تمَّ اكتشافها أو تخمينها. وتشكل أعوام 1960-1970 بداية الانتشار الفعلي لتعابير الأدب (والشعر) «الأوتوماتيكي»، و«السيبرنطيقي»، و«الرياضي» (من رياضيات)، و«الرقمي»، و«الديجتالي» أو «الخوارزمي».
في وجهة ثانية، أدى التطور الحاصل في مُعالجة النصوص إلى نشأة وعي مبكر جدا بأن الأدب كان يفقد طبيعته المادية ويتحول إلى كائن مجرَّد، بمعنى أنه كان يخرج من الكتب ويغادر الحوامل المادية و«الكتب» و«الدوريات» لينتشر بواسطة تقنيات جديدة للنشر أو الاتصال السلكي واللاسلكي، وأكثر من ذلك بتقنيات «الإلكترونية». كانت أشكال جديدة من الأدب «المجرَّد» تلوح.
وفي اتجاه ثالث، صارت جمعية الأوليبو Oulipo (محترف الأدب الاحتمالي) التي تأسست في عام 1959 على يد مهندس اسمه فرانسوا لوليونيه وكاتب مشهور آنذاك هو ريمون كينو، صارت مكان ابتكار مفردات جديدة أكثر أدبية وأكثر جمالية في محاولة لتوصيف خصوصية مُنجز الأدب الجديد أو مُتَوقعه. ومع ذلك، فهذه الاصطلاحات لم تبدأ انتشارها بين الجمهور الواسع سوى مع أولى منشورات الأوليبو، وهما: كتاب «الأدب الاحتمالي»، 1973 ، و«أطلس الأدب الاحتمالي»، 1983 ، إذ آنذاك ظهرت فئات جمالية جديدة ومفاهيم الأدب (والشعر أيضا) «التجريبي»، و«الافتراضي»، و«الكامن»، و«التوليفي»، و«الاستبدالي»، و«التنويعي»، و«العشوائي»، و«الاحتمالي » أو «الأوليبي» ببساطة. ولم تعرض الأوليبو أول منجراتها المعلوماتية إلا في عام 1975، وكان في معرض ببروكسيل عنوانه «أوروباليا «Europalia 75. وتطابقُ جميع تلك المصطلحات أيضا حقبة لم تكن فيها الحواسيب (أو «الآلات الحاسبة») تتدخَّل سوى في النصوص، وكان التواصل مع تلك الحواسيب يتم فقط بلوحة المفاتيح والطابعة، وكان التفاعل قليلا للغاية. كما لم تكن الشاشات قد ظهرت بعدُ في تلك المرحلة لمتابعة الخطوات المتتالية التي يتم إجراؤها بها للمعالجات المحوسبة. ويليق بنا أن نتذكر هذا لكي نفهم لماذا كان يُنظر إلى أجهزة الكمبيوتر آنذاك باعتبارها «آلات أدبية خالصة»، و«آلات كاتبة» متطورة جدا، حسب تعبير القرص المدمَج المتعدد الوسائط الذي أصدره أنطوان دونيز تحت عنوان: «الآلات الكاتبة Machines à écrire» (منشورات غاليمار المتعددة الوسائط، 1999)، تكريما لرائدين من رواد الأوليبو هما جورج بيربيك وريمون كينو. وقد اتسع تطبيق هذا المصطلح فصار يُطلقُ على سائر تقنيات الكتابة التي ابتكرتها جماعة الأوليبو.
- عن الحواسيب والشاشات (1979 – 1999)
في غضون ذلك، تواصلَ تطويرُ أجهزة الحواسيب وتصغير حجمها. وابتداء من عام 1979، سيتحوَّل التصور السائد عن المعلوماتية بفعل العديد من التطورات التقنية. فقد ظهر «جيل ثالث» من الأجهزة، هو «الحواسيب الصغيرة» الفردية المتوفرة على شاشة، فظهر حوارٌ جديد «تفاعلي» بين «الآلات» والمستخدمين، وصار في الإمكان معالجة النص والصورة والصوت بشكل متزامن في جهاز واحد بعد أن كان قبل ذلك يتطلبُ استعمال أجهزة منفصلة. أخيرا، وبانخفاض الأسعار، بدأ الوصول إلى الحاسوب يتسع ويُصبحُ ديمقراطيا.
كما توفرت موارد جديدة للإبداع، فظهرت اصطلاحات أخرى في إطار محاولة تحديد الطبيعة المميِّزة للتجارب التي انطلقت على الفور. ومع ذلك، تواصلت الأبحاث السابقة، لاسيما محاولات تصميم برامج معلوماتية «لتوليد النصوص». و«مُولِّد النص» هو عبارة عن برنامج لمعالجة المعلومات يجعل الحاسوب يُنتج «نصا». وتقوم العملية على إمداد الجهاز بشرح لمبدأ عملية إنتاج نوع خاص من النصوص. وقد خمَّنَ فرانسوا لوليونيه إمكانية إنتاج هذا النوع من الكتابة منذ عام 1959، إذ تحدث في البيانين الأولين لجماعة الأوليبو، الأول بعنوان: «La lipo» والثاني تحت عنون «البيان الثاني»، عن استعمال «الآلات الحاسبة لمعالجة المعلومات» إما لتقليد أعمال أدبية أو «انتحالها»، وذلك بمحاولة تحليل سيرورة إنتاجها وإعادة إنتاج عملية الإنتاج هذه بطريقة أو بأخرى، أو «لفتح سبل جديدة غير معروفة» أمام الكتابة استنادا إلى «تركيب النصوص». كما حدسَ بول فاليري «التركيب» الأدبي والشعري منذ عام 1922 في إحدى مقالاته الصادرة في كتابه الذي يحمل عنوان مُنوَّعاتٌ. ولكن مصطلحات «تركيب» و«تركيبي» و«التركيب الأوليبي» التي صاغها فرانسوا لويونيه سرعان ما اختفت جرَّاء انتشار اصطلاحي الأدب «التوليدي» أو الشعر «التوليدي» أو حتى «الأدب المدعوم بالحاسوب».
في عام 1981، وقع انقسام داخل جماعة الأوليبو، فأنشأ منشقون أمثال جاك روبو وبول برافورت وجان بيير بالب وماريو بوريللو ومارسيل بنعبو وآخرون، جماعة أخرى تحت اسم ألامو، ومعناها «جمعية الأدب المدعوم بالرياضيات والحاسوب»، حددت لنفسها هدفا جديدا «ألاميا» (نسبة لألامو) لإبراز أصالة هذا النهج مقارنة بتجريبات جماعة الأوليبو. في عام 1984، وصَفَ العددُ 95 من مجلة «الحركة الشعرية » مشاريع هذا النهج، وفي العالم الموالي (1985)، قدمت جماعة ألامو أول «مُوَلِّداتها» أو «برامجها المعلوماتية الأدبية»، وذلك خلال معرض حول «المُجرَّدات» نُظِّمَ بمركز جورج بومبيدو في باريس.
موازاة مع ذلك، منذ عام 1980، تطوَّرت في فرنسا تكنولوجيا أخرى، هي «التليماتية» أو «المعلوماتية عن بُعد» انطلاقا من المينيتيل («هاتف صغير» يتوفر على شاشة صغيرة)، وبذلك صار الشعرُ «متحرِّكا»، إذ أتاح استعمال الشاشات إدراجَ مؤثرات على «النصوص»، فصارت هذه النصوص مثل «صور»، أصبحت حياة وحركة وتحريكا، وكلها أشياء كان من المتعذر تصورها من قبل.
وفي عام 1989، بفرنسا دائما، تأسست جمعية LAIRE في فيلنوف داسْك، ما سيتضح أنه كان أول مجلة للشعر المتحرك والإلكتروني في العالم، وهو مجلة alire التي كانت تصدر في البداية في أقراص مرنة ثم بعد ذلك في أقراص مدمجة متعددة الوسائط. كما ظهرت مصطلحات أخرى في تلك الفترة لإبراز خصائص هذه الأشكال الشعرية الجديدة، إما بتأكيد طبيعتها «متعددة الوسائط»، و«الوسائطية»، أو ـ«المختلطة الوسائط»، و«التفاعلية» أو «الحوارية»، أو التشديد أخيرا على جانبها «الخطي-الصوتي-البصري». في هذا المنظور، كانت الحواسيب تبدو بمثابة أدوات إبداع استثنائية وقادرة على خدمة شعر «كلي» (وهي عبارة للشاعر الإيطالي جياين توتي)، مؤسِّسَة أشكال شعرية تجمع بين الكتابة والصورة والصوت، فيما كانت هذه العناصر الثلاثة تُمارسُ بطريقة منفصلة من قبل. وبذلك بدا أنه صار بالإمكان تحقيقُ حلم إبداع ذلك الشعر «الانصهاري» الذي لمَّح إليه مالارميه، على سبيل المثال، منذ 1897، في ديوانه «رمية نرد»(2). هذه الرغبة أو الطوباوية هي التي هيمنت على معظم التجارب الإبداعية منذ حوالي عشرين عاما، من 1979 إلى 1999 تقريبا.
- عن الشبكات والأنترنت (1995 -2003)
عرف الوضع السابقُ تغييرا كبيرا بفعل التوسع الهائل لشبكة الأنترنت الذي انطلق في عام 1995 وتسارعَ ابتداء من عام 1999. فمنذ هذا التاريخ صار الحاسوب بالفعل «وسيطا»، و«أداة» حقيقية «للاتصال الجماهيري»، فحاولت أجيال جديدة من الكتاب والشعراء امتلاك هذا الوسيط فورا، غير أنَّ النتائج كانت غامضة جدا.
تمَّ إنشاء أول شبكة كبيرة للحواسيب، وهي أربا نِتْ، في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1968. أما في فرنسا، فلم تُطلق شبكة ترانسباك إلا في عام 1978. ومع ذلك، فبحلول عام 1985، بدأت شبكة NSF الأمريكية المخصصة للبحث العلمي في توحيد أهم الشبكات التي كانت تتشكَّلُ آنذاك في سائر أنحاء العالم تقريبا. وفي عام 1989، واصلت المهمة شبكة الأنترنت، أو «شبكة الشبكات»، فانفتحت على العمليات التجارية ابتداء من عام 1991. وفي سنة 1995، وصلت إلى فرنسا بدورها «حمى» «الويب»، أي «الشبكة»، وهما الاصطلاحان اللذان يطلقان الآن على شبكة الأنترنت.
أصابت هذه «الحمى» الشعراء أيضا، إذ بحلول عام 1999، أعربت مجلة Doc(k)s الخاصة بالشعر عن الحاجة إلى إجراء جرد أولي لما تمَّ إنتاجه في الشبكة لاستكشاف «خصوصيات الويب الدقيقية»، لأن المجلة لاحظتْ أن جيلا جديدا من الكتاب الشباب قد اكتشف فجأة «ثقافة الحاسوب» دون أنْ يكتشف تاريخها بالضرورة. وبعد إنجاز ذلك الجرد وجدت المجلة في الويب «عشرات الشعراء لم يكن يُعرفُ عنهم أي شيء»، ولا يملكون مرجعيات جمالية وأدبية مشتركة، جاؤوا من آفاق أخرى، مثل الفيديو والفنون البصرية والتشكيلية، وفنون التصميم، والتواصل، بل وحتى من الشبكة لا غير. والجديدُ كانَ هو ذلك الخليط الهائل من التأثيرات التي كانت تجري، والطريقة التي كانت تتيح بها الشبكةُ تلك الصلات، واللقاءُ غير المتوقع بين عدد من الفئات الجمالية والهويات الخاصة والشخصيات الفردية ومسارات الإبداع وطرائقه، والتركيب بينها.
كان الجديدُ أيضا انفجارُ مفردات جديدة، إذ كان كلٌّ يسمي ما فهمه من المعلوماتية بطرائق متعددة، بعبارات مختصرة مجازية، حسب انشغالاته وتجاربه الإبداعية. هكذا، أدى استخدام البريد الإلكتروني إلى ظهور «فن البريد الإلكتروني»، و«شعر البريد الإلكتروني»، و«شعر النقرة». وبشكل أعم، فقد نجم عن استعمال «الويب» ظهور «فن الويب»، و«شعر الويب»، و«إبداع الويب»، و«قصائد الويب»، بل وحتى إلى «أدب شبكي» و«شعر شبكي» و«أعمال شبكية». كما أدى تفضيلُ «النصوص التشعبية»، هذه اللغات البرمجية المعلوماتية التي تتيح التنقل و«الإبحار» وسط مقاطع نصوص، إلى ولادة «أدب تشعبي» و«شعر تشعبي»، يصير تلقائيا «وسيطا تشعبيا» (أو «نصا مرفَّلا») عندما تُضاف إليه مقاطع فيديو أو تسجيلات صوتية تأخذ شكل «قصائد تشعبية» من طبيعة «متعددة الوسائط». صار الشعر، في الظاهر، أكثر تكنولوجية. كما يبدو أنَّ الإبداع قد عرف فورانا في الحقبة الأخيرة، يتمثل في هذا الحشد من الوجهات المختلفة التي يأخذها في شبكة الأنترنت.
خلاصـة:
لاشك أنَّ هذا الفوران للمصطلحات، والتعريفات المقترحة للأشكال الشعرية الناجمة عن تطور المعلوماتية وتكنولوجيا الإعلام، إنما هو تجلِّ لعدم ارتياح عميق. فقد حصلت في عام 1959 قطيعة، أي «فجوة» غير قابلة للردم، بين الأدب السابق المرتبط بتقليد الكتاب الورقي والشعر الذي نُعتَ على الفور بـ «الإلكتروني»، و«السيبرنطيقي»، و«الرياضي» (من رياضيات)، و«الرقمي»، و«الديجيتالي» و«الأوتوماتيكي». ومنذ عام 1960، حاولت حفنة الكتاب الذين اجتمعوا حول لوليونيه وريمون كينو، أو الأوليبو، أمثال جورج بيريك، وجاك روبو، وهاري ماتيو، وإيطالو كالفينو، وبول فورنيل، وبول برافورد، وجاك بنس، ونويل أرنو، ومارسيل بنعبّو، وجاك ديشاتو، وميشال ميتاي، وكلود بيرج، وجان كيفال، ولوك إيتيان، وجاك جويت، وجان ليسكور، وفرانسوا كاراديك، وستانلي شابمان، وآخرون كثيرون، حاولوا التفكير في الآفاق الجديدة التي يمكن للمعلوماتية أن تفتحها أمام الإبداع الأدبي رغم أنَّ أجهزة الكمبيوتر لم تكن تشتغل آنذاك سوى على «نصوص» تمَّ كتابتها سلفا. وإلى تلك الفترة، بين 1959 و1979، يعود ما تطلق عليه منذ ذلك الوقت أسماء الشعر «التجريبي»، و«الاحتمالي»، و«الافتراضي»، و«الكامن»، و«التوليفي»، و«الاستبدالي»، و«التنويعي» و«العشوائي».
في تلك الفترة أيضا تبلورت مفاهيم جديدة ونشأت مصطلحات أخرى لن تنتشر مع ذلك إلا خلال الفترة الموالية، بين عامي 1979 و1999 تقريبا، حول مفهوم «الأدب التوليدي» أو «الأدب المدعوم بالحاسوب». لقد صارت الحواسيب الآن متعددة الوسائط، وتتوفر على شاشات، وتسمح بالاشتغال في وقت واحد على الصوت والنص والصورة، وبذلك صار «الشعر متحركا»، و«تيليماتيكيا»، و«معلوماتيا عن بُعد»، كما صار «متعدد الوسائط»، و«وسائطيا»، أو «مختلط الوسائط»، وصار أخيرا «حواريا»، و«تفاعليا»، بل وحتى «كتابيا-سمعيا-بصريا». ومع التطور الكبير لشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية وتوسع ما يسمى الآن بـ «الشبكة» أو «شبكة الإنترنت»، عرفت الاصطلاحات فورانا: «شعر البريد الإلكتروني»، «الشعر الإلكتروني»، «القصيدة الإلكترونية»، «شعر النقرة»، «قصائد النقرة»، «شعر الويب»، «إبداع الويب»، «قصائد الويب»، «القصائد التشعبية»، «الشعر التشعبي»، «الشعر الشبكي»، «القصائد الشبكية»، وكلها اصطلاحات ترمي إلى تحديد هوية هذا الأدب الجديد. هل هو وجوه لشعر واحد «تكونولوجي» «رقمي» يستمد وحدته من المعلوماتية أم أنه تجليات فوضى ناجمة عن دخول الأدب إلى العصر الرقمي؟ من الصعب على المقولات التقليدية الأدبية المرتبطة بثقافة الكتاب المطبوع أن تتيح فهم طبيعة التحول الجاري الآن. وهذه الأزمة للمصطلحات تعكس تلك الصعوبة. كما أنَّ ثقافة جديدة، «تكنولوجية» أو «أدب شبكية» هي أيضا آخذة في النشأة. نعم، تظل حيوية الشعر ثابتة، ولكن هذا «الشعر الشبكي» غير المسبوق يبحث مع ذلك عن علاماته ومرجعياته في فجر القرن الحادي والعشرين.
ألان فويلمان Alain Vuillemin
مركز الدراسات والبحوث في النصوص الأدبية الإلكترونية CERTEL
جامعة أرتواس – فرنسا
هامـش:
(1) مقال من مجلة:
– L’Approche poïétique/poétique, Craïova (Roumanie), Université de Craïova, 2003, n°3
(2) ديوان مالارميه هذا، مترجمٌ إلى اللغة العربية، بعنوان رمية نرد، ترجمة محمد بنيس، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2007. (المترجم)