تمهيد
احتفاء بحلول سنة 2000، وهي سنة لا تعني أي شيء سوى تحية لمجد الأصفار، طُلب مني الإجابة على السؤال: ما هي الحياة؟ سؤال يبدو لي مناسبا جدا لاسيما أنه لا يتوفر على جواب. فقد اضطر البشر إلى طرح مثل هذا السؤال منذ أن وجدوا وفكروا، إذ سرعان ما يعلم كل واحد أن مآله هو الموت عاجلا أو آجلا. وقد شاهد الكل حيوانات أو بشرا أمواتا، كما يعلم الكل أن الحياة حالة عابرة. الجميع يريد أن يعرف ما هي. والمشكلة هي أنَّه من الصعب تعريف الحياة على الخصوص ما لم يكن هذا التعريف مستحيلا. والأمر في ذلك يُشبه الزَّمن إلى حد ما، إذ يملك الجميع فكرة بديهية عما هو الزَّمن، ولكن عندما يتعيَّنُ تعريفه فإننا نادرا ما ننجحُ في ذلك.
ولكن إذا كان الجميع يتحدث عن الحياة في صلتها بالموت، فقلة من الناس هي التي تتحدث عن الحياة في علاقتها بالأشياء الجامدة، أي بالجبال والصخور والرمال والمياه، وما إلى ذلك. في الواقع، إنَّ الفصل بين الكائن الحي وغير الحي هو تقسيم حديث نسبيا، إذ كان يتم دراسة الحيوانات والنباتات معا إلى حدود نهاية القرن XVIIIم، وكان يتم مقارنة مورفولوجيتها، وتصنيفها. كان يُكتبُ التاريخ الطبيعي.
ولكن في أوائل القرن XIXم فقط أخذ العديد من الكتاب، ومن بينهم لامارك Lamarck، يهتمون بخصائص الكائنات الحية في تقابل مع الأشياء الجامدة، ويستخدمون كلمة بيولوجيا (أو علم الأحياء). ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن ظهور البيولوجيا قد تمَّ مع ظهور الرومانسية. يبدأ الحديث عن أول انتحار في الأدب: انتحار الشاب فارتر[1].
الحياة، تعريف صعب
سعى العلماء والفلاسفة منذ وقت طويل إلى إلقاء الضوء على طبيعة الحياة. كانت فكرة الحياة توحي بوجود مادة أو قوة تمنحها سمات خاصة، فكان يُظن أن «المادة الحية»، كما كان يُقال آنذاك، تختلف عن المادة العادية بمادة أو قوة تمنحها سمات خاصة. وقد تمت على مدى قرون محاولة اكتشاف هذا الجوهر أو القوة الحيوية. والواقع أن الحياة هي سيرورة وعملية تنظيم للمادة. وهي لا توجد ككيان مستقل يمكن وصفه. يمكننا أن نقوم بدراسة السيرورة أو التنظيم ولكن لا يمكننا وصف فكرة الحياة المجردة. يمكننا محاولة وصف ما هو الكائن الحي كما يمكننا أن نرسم الخط الفاصل بين الحي وغير الحي، ولكن ليس هناك «مادة حية». هناك مادة تشكل الكائنات الحية، وهذه المادة ليس لها خاصية محدَّدة تفتقدها الأجسام الجامدة..
إذا كان المذهب الحيوي قد استمر وقتا طويلا وكان العديد من العلماء البيولوجيون قد ظلوا يذكرون إلى حدود مستهل القرن XXم أن قوة غامضة هي ما يحرك الكائنات، فذلك يعود إلى عدم كفاية النظرية التي كان يُعترض بها عليهم. فالذين كانوا يعتقدون أنَّ الكائنات الحية لا تختلف جوهريا عن المادة الجامدة يرونَ مع ديكارت Descartes أنَّ جميع الكائنات الحية – ربما باستثناء الإنسان – ليست سوى آلات. ومن الواضح أن تطبيق نموذج الآلة على الأجسام الحية غير كاف جدا: فنحن لم نر قط آلة تبني نفسها بنفسها، وتستنسخ نفسها ذاتيا أو تحصل بمفردها على الطاقة التي تحتاجها. ومع ذلك، فالتخلي عن هذه الفكرة في نهاية المطاف لم يتم إلا في وقت قريب.
نظرية التطور والنظرية الجزيئية
تلقى المذهب الحيوي الضربة الأولى والرئيسية على يد علماء الكيمياء. بما أن الأجسام الحية والأجسام الجامدة كانت تبدو من طبيعة مختلفة، فقد كان يُظنُّ أنَّه ليس في استطاعة الكيميائيين أن يصنعوا مكونات الكائن الحي، تُدعى أجساما عضوية. ولكن في عام 1828م، نجح فريدريك وولر Frederik Wöhler في تركيب مادة عضوية في المختبر، هي سماد اليوريا، انطلاقا من مكونات غير عضوية، فكان ذلك هو الدليل على أنه يُمكن تحويل المركبات غير العضوية إلى جزيء[2] عضوي في المختبر.
لقد كانت نهاية القرن XIXم فترة خصوبة استثنائية للبيولوجيا، وكان ذلك عصر النظريات الكبرى:
– النظرية الجرثومية مع باستور Pasteur: تم اكتشاف الكائنات الدقيقة في أواخر القرن XVIIم بفضل اختراع المجهر، ولكن لم يُعرَف لفترة طويلة ما العمل بها ولا أين يمكن تخزينها إلى أن جاء باستور فتمَّ تسليط الضوء على دور هذه الكائنات الصغيرة في أمراض الإنسان والحيوان وكذلك في بعض الصناعات، مثل صناعتي النبيذ والجعة. بالإضافة إلى ذلك، فقد أظهر باستور أن الجراثيم تولد من الميكروبات وأنَّ التوليد العفوي لا وجود له.
– نظرية الخلية مع شليدن Schleiden في النباتات ومع شوان Schwann في الحيوانات: كلّ الكائنات الحية مصنوعة من خلايا، والخلية هي وحدة الكائن الحي. إنها أصغر عنصر يتوفر على كافة خصائص الكائن الحي. يحدث التكاثر عن طريق الإخصاب، أي عن طريق اندماج خليتين جنسيتين هما: الحيوان المنوي والبويضة. ويتطور الجنين انطلاقا من ناتج تكاثر الخلايا وتمايزها في خلايا متخصصة (عضلية، عصبية، كبدية، وما إلى ذلك).
– نظرية التطور مع داروين Darwin: العالم الحي كما نراه من حولنا، بما في ذلك نحنُ البشر، هو نتيجة لتاريخ الأرض. تنحدر الأنواع من بعضها البعض بآلية تصورها داروين وأطلق عليها اسم الانتقاء الطبيعي. في نهاية المطاف، تنحدر جميع الكائنات الحية من جسم حي واحد، أو من عدد صغير جدا من الكائنات الحية الأولية، مما يقود إلى طرح سؤال أصل هذا الجسم الحي، أي أصل الحياة.
في أوائل القرن XXم تم تطوير تخصصين جديدين هما الكيمياء الحيوية (أو البيوكيمياء) وعلم الوراثة. تسعى الكيمياء الحيوية إلى تحليل مكونات الخلية وتفاعلاتها، ومع هذا التخصص وجد التجريبُ منفذا إلى كيمياء الحياة. فهو يحلل عددا كبيرا من التفاعلات البسيطة نسبيا، ويتابع التحولات التي تتشكل بها احتياطيات الطاقة وتتطور مواد البناء.
لدى تحليل مكونات الخلية، يُلاحَظ أنها تتكون من نوعين من الجزيئات: جزيئات صغيرة وجزيئات كبيرة جدا. تنتج الجزيئات الصغيرة عن سلسلة من ردود الفعل المتتالية. في كل خطوة يتم إضافة مجموعة صغيرة من الذرات أو حذفها، ويحفز كل رد فعل على نحو خاص إنزيمٌ معين.
وتُصنَعُ الجزيئات الكبيرة بطرق مختلفة جدا، هي عبارة عن بوليميرات تتشكل بتكرار رد فعل واحد. ويُضاف إلى كل خطوة نوع من جزيء صغير، وبالتالي يمكن لهذه البوليمرات أن تحتوي على مئات أو حتى آلاف من المخلفات. وهناك نوعان منها يلعبُ كل منهما دورا رئيسيا في الخلية:
– الأحماض النووية هي بوليمِرَات[3] ما يسميه الكيميائيون قواعد بيورينية puriques وبيريميدية pyrimidiques، حاضرة بأربعة أنواع؛ وهناك نوعان منها: الحمض النووي (ADN) الذي يضمن الحفاظ على المعلومة واستنساخها؛ والحمض النووي الريبي (ARN) الذي يستخدم في المقام الأول لنقل المعلومات.
– البروتينات والأحماض الأمينية التي يوجد منها عشرون نوعا. وتستخدم البروتينات في تحديد هياكل الخلية وتكوين الأنزيمات[4]، ومحفزات التفاعلات الكيميائية.
وبتزايد تشكل كائنات حية وردود الفعل التي تكوِّنُ هذه الكائنات معقلا لها يقلُّ اختلافها عن تلك التي تُصنَعُ في المختبر. تكمن أصالة الكائنات الحية بالخصوص في الأنزيمات، ووظائفها باعتبارها عوامل حافزة. وبفضل دقة الحافز الأنزيمي وفعاليته وخصوصيته تستطيع شبكة جميع العمليات الكيميائية أن تنسج نفسها في المساحة الصغيرة للخلية. وتقترن هذه الأنشطة الأنزيمية بوجود البروتينات. إذا كان لكيمياء الكائنات الحية سرّ مَّا، فيجب البحث عنه في طبيعة البروتينات وخواصها.
المجال الجديد الآخر، وهو علم الوراثة، وُلدَ في القرن XXم ونشأ معه. لم تحظ أعمال مندل Mendel التي أنجزها ونشرها في سنوات 1860 باهتمام كبير. «أعاد اكتشافها» العديد من علماء البيولوجيا في وقت متزامن، وهي تؤدي إلى فكرة أنَّ الـ «طبيعةَ»، أي ما نرى، ترتكزُ على «جزيء» لا نراه يختبئ في قلب الخلية، وقد تمَّ تسمية هذه الخلية «جينا». ومنذ ذلك الحين واصلت علوم الوراثة سعيا حثيثا لفهم ما هو الجين، واشتغاله وخصائصه. وبتزايد معرفتنا به اتضح جليا أنَّ الجينات تقع في قلب كل خلية وكل جسم حي، وأنَّ علم الأحياء برُمَّته إنَّما يقوم على علم الوراثة.
على امتداد الثلث الأول من القرن تمَّ البحثُ عن التحولات لدى مختلف الحيوانات والنباتات، وكذلك عن التقاطعات بين كائنات حية تختلف بتحولات عديدة. وإلى عام 1910 تعودُ البرهنةُ على أنّ ما من جين إلا ويحتل مكانة خاصة، ويمكن تعيين منزلته في كروموزوم خاص. وفي عام 1913، تمَّ نشرُ الترتيب الخطي للجينات على الكروموزوم، وأول خريطة جينية مع العديد من العلامات.
وما دام علماء الوراثة قصروا أبحاثهم على دراسة الكائنات الحية المعقدة، فقد حددوا على الخصوص الجينات المتحكمة في سمات مورفولوجية أو سلوكية، ولكن في أواخر 1930 ظهر لدى علماء الوراثة اهتمامٌ جديد بالكيمياء الحيوية، فاتسع التحليل الجيني ليشمل الكائنات المجهرية، وأتاحَ اكتشاف جينات محدِّدة للتفاعلات البيوكيميائية، وبذلك أصبح بالإمكان تشريح المسارات الأيضية، وصياغة نظام التفاعلات المتتالية، وتبيين أن تحفيزَ كل مرحلة من المراحل التي يقوم فيها البروتين بدور المحفز يكونُ تحت سيطرة جين معين.
وطوال هذه الفترة، بدت الجينات بمثابة «كائنات ذهنية»، بنيات متخيَّلة ضرورية لتناول ظواهر معروفة. لم يُشاهدها أحد قطّ. كما لم يكن بالإمكان تنقيتها ولا وضعها داخل زجاجة. غالبا ما كان يتم تمثلها باعتبارها حبات افتراضية مرصوصة في خيوط افتراضية، مطابقة لكروموزومات. ومع البحوث التي أظهرت أنَّ الحمض النووي، أو الـ ADN، هو الذي يحمل الصفات الوراثية عند البكتيريا والفيروسات والجينات بدَأ الجينُ يأخذ سُمكا واتساقا بعد أن ظل إلى ذلك الحين بناء ذهنيا خالصا.
وفي منتصف القرن حصل تغيير جديد في طريقة النظر إلى الكائنات الحية، متمثلا في ولادة البيولوجيا الجزيئية. انطلق هذا التحول من فكرة أنَّ التجريب جاء ليدعم فقط التأثير البعدي[5]. وكانت الفكرة هي أنه يجب بالضرورة تفسير خصائص الكائنات الحية ببنية الجزيئات المكونة لها وبتفاعلاتها. وقد عاد هذا التصور إلى جماعة من علماء الفيزياء وفي مقدمتهم برنال Bernal، ونيلز بوهر Niels Bohr، ودلبروك Delbrück، وشرودنغر Schrödinger ، الذين يرون أنَّ ما من تفسير بيولوجي إلا ويجب أن يرتكز على أساس جزيئي ولو اقتضى الأمر العثور على قوانين جديدة، مع عدم خروجها عن الفيزياء، قد يتعذر اكتشافها في غير الكائنات الحية، وهو ما لم يتم ملاحظته حتى الآن.
وعلم الأمراض هو الحقلُ الذي تمَّ فيه الحصولُ على أول تفسير جزيئي مع دراسة الخضاب الدموي أو الهيموغلوبين في فقر الدم المنجلي. ولكن معرفة بنية الحمض النووي على الخصوص هي التي أثبتت بشكل قاطع مزايا طريقة الفيزيائيين في النظر وأمدَّت علم الأحياء الجزيئي بمُرتَكز. ومع البنية التي اقترحها وطسون Watson وكريك Crick تمت الإجابة، داخل خصائص الجزيئة، على واحد من أكبر الأسئلة التي طرحتها البشرية، وهو الوراثة.
لقد ركَّزت البيولوجيا الجزيئية أوَّل أبحاثها على أكثر البنيات بساطة، وهي البكتيريا والفيروسات. وميزة البكتيريا أنه انطلاقا من البكتيريا الواحدة يمكن الحصول في غضون بضع ساعات على ساكنة متجانسة تتألف من بضعة ملايير من الأفراد. وعلى العكس، انطلاقا من ساكنة متجانسة تتألف من مليارات من البكتيريات يمكننا عزل متغير خاص ولو أنه يصعب علينا أن نتصور وسطا انتقائيا يتيح تكاثر هذا المتحول الواحد، ومن هنا الأهمية التي تحظى بها البكتيريا لدى علماء البيولوجيا الكيميائية وعلماء الوراثة. فبعد أعمال باستور، اقتصر الاهتمام بالميكروبات على دورها في أمراض الإنسان والحيوان أو دورها في الصناعة، مما أدَّى إلى خسوف دراستها من الناحية البيولوجية. وفي منتصف هذا القرن (العشرين)، اتضح أن البكتيريا قد تكونت من المواد الكيميائية نفسها التي تكونت منها جميع الكائنات الحية، وأنَّها تملك كسائر الأجسام الحية جينات يتحدد مكان وجودها في كروموزوم.
وبذلك أظهرت الأعمالُ المنجزة في منتصف القرن XXم وحدة بنية العالم الحي ووظيفته. ولدراسة العديد من المشاكل ظهرت البكتيريا مادة مواتية بشكل خاص. أما الفيروسات، فهي من الصغر بحيث لا يمكن مشاهدتها بالمجهر البصري، بل فقط بالمجهر الإلكتروني. تمَّ التساؤل لفترة طويلة عمَّ إذا كانت الفيروسات كائنات حية، وقد اتضح اليومَ أن الجوابَ هو لا، إنها ليست كائنات حية؛ لأنها عندما توضَعُ في المستنبت لا تؤدي أيا من سائر الوظائف المشتركة بين جميع الكائنات الحية، كتحويل الطاقة وإنتاجها أو استعمالها والنمو والتكاثر. تخلو الفيروسات من أي معدات أنزيمية، ولا يمكنها أن تتكاثر إلا داخل الخلية التي تخترقها عن طريق العدوى، وذلك باستخدام المعدات الأنزيمية للخلية لفائدتها.
اقتصرت البيولوجيا الجزيئية لفترة طويلة على دراسة البكتيريا والفيروسات في حين ظلت الكائنات متعددة الخلايا بعيدة عن متناول مثل هذا التحليل لأنَّ حمضها النووي من التعقيد بحيث تحدى إمكانيات علم الوراثة الجزيئي. وتدريجيا، تمَّ تعلمُ كيفية استخدام هذا الحمض النووي، وإيجاد وسيلة لقطع خيوط طويلة منه عند نقاط مختارة، وربط أجزاء منه وإدراج مقاطع منه في الكروموزوم. ويُطلق على جميع هذه العمليات اسمُ الهندسة الوراثية. وبذلك أصبح من الممكن التعامل مع كميات الحمض النووي الكبيرة التي يشتمل عليها جينوم الكائنات الحية المُركَّبة.
في غضون بضع سنوات، حدث تحول كلي في طريقة النظر إلى الكائنات الحية ودراسة اشتغالها وتطورها. وقد اكتسحت ضرورة التفسير الجزيئي فروعَ البيولوجيا الأكثر تنوعا، كبيولوجيا الخلية وعلم الفيروسات وعلم المناعة وعلم وظائف الأعضاء والبيولوجيا العصبية وعلم الغدد الصماء، وما إلى ذلك. وفي الفترة التي تلت ذلك، والتي نحن ما زلنا فيها، أفضت هذه الطريقة الجديدة في رؤية العالم الحي، في معظم مجالات البيولوجيا، إلى حشد من المعطيات الجديدة. إنها فترة من الصقل والاستغلال. وقد أتاحَ مجهودٌ تكنولوجي غير مسبوق صقلَ الطرق المستخدمة في تحليل الجزيئات الكبرى والأحماض النووية والبروتينات. من الصعب على الطالب الذي يبدأ اليومَ ويلج مختبرا للمرة الأولى أن يتخيل ما كانت عليه دراسةُ البروتينات وبالخصوص دراسة الأحماض النووية منذُ عشرين أو خمسة وعشرين عاما. واليوم، يتعلم هذا الطالب نفسه في بضعة أسابيع تقطيعَ جينوم إلى أجزاء، وعزلَ مقاطع جينات، وتنقية الجينات، وإنتاج غرامات منها ووضعَ تسلسلها، وإعادة تخزين أي جين أو مقطع مع أي جزء آخر من الحمض النووي، وحقنَ جين في خلية، بل وحتى في نواة بويضة مخصبة. وباختصار، فهو يتعلم في بضعة أسابيع ترقيع جزيئة الوراثة نفسها داخل المختبر. وكم كان من المُدهش ملاحظة أن الكروموزومات، هذه البنيات التي كانت تعتبر من قبل غير ملموسة عمليا، إنما تخضع في الواقع لتعديلات مستمرة وأنَّ جزيئة الوراثة تُجمَّعُ قطعة قطعة، تعدَّل وتقطع، وتُطوّل، وتقصَّر، وتقلَّب. وباختصار، كم كان مدهشا ملاحظة أنَّ وجودنا على هذه الأرض هو نتيجة ترقيع كوني ضخم.
لهذا لم يعد أي عالم بيولوجي يُشكِّكُ اليومَ في أنَّ عالم الأحياء، كما نراه من حولنا، هو نتيجة تطور استغرق عدة مليارات من السنين. بل هذه حقيقة تقبلها اليومَ حتى الكنيسة الكاثوليكية. لا شيء مما تعلمناه منذ 100 عام، ولاسيما نتائج البيولوجيا الجزيئية، يمكن تفسيره بدون نظرية التطور. ثمة عددٌ كبيرٌ من التعميمات في البيولوجيا، ولكن هناك القليل جدا من النظريات. ومن بين هذه النظريات تحظى نظرية التطور بأهمية كبرى قياسا إلى باقي النظريات لأنها تجمع، داخل الحقول الأكثر تنوعا، حشدا من الملاحظات التي لولاها لظلت مجرد معاينات معزولة، ولأنها تربط بين جميع التخصصات التي تهتم بالكائنات الحية، ولأنها تؤسس نظاما داخل التنوع الهائل من الأجسام الحسية وتجمعها عن كثب مع باقي الأرض؛ باختصار إنها تحظى بأهمية كبرى لأنها تقدم تفسيرا سببيا للعالم الحي وعدم تجانسه. ولكن إذا كان العالَم البيولوجي بأكمله اليوم يُسلِّمُ بدور التطور في تكوين العالم الحي، فإنَّه لازال هناك خلافات حول بعض جوانب الآليات الموَظَّفة في ذلك التكوين. وما يُميِّزُ النظرية العلمية هو أنها تخضع ا للنقاش في تفاصيلها وتفضي إلى بحوث جديدة.
التطور البيوكيميائي بين الخلق والانتقاء
تتيح البيولوجيا الجزيئية تسليط الضوء على عدد من القضايا التي تُطرَحُ حول التطور، أود أن أثير هنا اثنتين منها فقط:
الأولى مسألة ما إذا كانت جزيئات الكائنات الحية تختلف، وكيف ذلك. فقد ظل الاعتقاد سائدا لفترة طويلة بأنها مُختلفة كليا، بل وأنَّ الأجسام الحية تستمد خصائصها وسماتها من طبيعة جزيئاتها. وبعبارة أخرى ظل الاعتقاد سائدا لفترة طويلة بأنَّ للماعز جزيئات الماعز وللحلزون جزيئات الحلزون، وأنَّ جزيئات الماعز هي التي تُمدُّ العنزة بخصوصياتها.
تدريجيا، بقدر ما كانت تتحسَّنُ وسائل تحليل البروتينات والجينات وكانَ المزيد من الأجسام الحية يُدرسُ، اتضح أنَّ بعض الجزيئات، كالهيموجلوبين على سبيل المثال أو الهرمونات، كانت متماثلة أو تقريبا هي نفسها عند كائنات حية مختلفة جدا. وهكذا اتضحَ أنَّ ثمة نقطة قرابة تجمع بين سائر الحيوانات، وبين سائر الكائنات الحية، وبالتالي لم تعد الجينات والبروتينات أشياء فريدة وخاصياتٍ ينفرد بها كل نوع محدَّد، إذ نجد من نوع إلى آخر بنيات متجاورة جدا. أفضل من ذلك، فنحنُ غالبا ما نجدُ داخل النوع الواحد بنيات متشابهة تؤدي وظائف مختلفة جدا. بالإضافة إلى ذلك، كثيرا ما نرى مقاطع من متتالية مشتركة تندرجُ في متسلسلات مختلفة. الجينات والبروتينات في معظمها هي ضروبُ فسيفساء تشكلت من خلال تجميع بضع عناصر، وبضع عناصر (أو وحدات) تصميمات أولية يحمل كل واحد منها موقعا للتعرف عليه. وهذه العناصر الزخرفية توجد بعدد محدود، هو ألف إلى ألفين، وتوليفها هو ما يمنح للبروتينات تنوعها اللانهائي، وتوليفُ بضع عناصر زخرفية خاصة هو ما يمنحُ للبروتين خصائصه النَّوعية.
والعنصر الأساسي الذي يتدخل مباشرة في كيمياء الخلية هو موقع التعرف الذي يشتمل عليه مجالٌ بروتيني ما. لقد بدا التعرف الجزيئي، أولا، مقصورا على التفاعل بين الأنزيم وموقع العمل الحيوي أو بين الجين المضاد والأجسام المضادة. وإليه يُعزى اليوم الدور الأول في مجموعة واسعة من الظواهر: بَلْمَرَة بروتينات لتشكيل هياكل مثل بروتينات العضلات، والهيكل الخلوي، والريبوسومات[6]، وكابسيدات[7] الفيروسات؛ تفاعل بروتين الحمض النووي في تنظيم نشاط الجينات؛ تفاعل المستقبِل-رابط بروتينات الجينات في مجموعة متنوعة من الظواهر، كنقل الإشارات أو تفاعلات الخلايا، والتصاق الخلية، وما إلى ذلك. وتبقى العديد من مواقع التعرف الجزيئية على حالها طوال التطور بحيث نجدها متطابقة تقريبا لدى الكائنات الحية الأكثر تنوعا.
وعلى هذا النحو نرى التغييرات التي طرأت على طريقة النظر إلى التطور الكيميائي الحيوي. ما دام كان يُنظر إلى كل جين، ومن ثمة إلى كل بروتين، باعتباره كائنا فريدا ونتيجة تسلسل فريد من النيوكليوتيدات[8] أو من الأحماض الأمينية، فإنَّ أيا من تلك الجينات لم يكن بمقدرته أن يتشكل إلا بخَلق جديد من الصعب جدا توقعه بطبيعة الحال. ولكن وجود عائلات كبيرة من البروتينات ذات البنيات المتماثلة، وتكوُّن بروتينات فسيفسائية من عناصر (أو وحدات) زخرفية تمَّ العثور عليها، وهذه ظاهرة مدهشة تتمثل في كون البروتينات تحافظ على عناصرها (أو وحداتها) الزخرفية النوعية رغم تنويع مورفولوجي هائل، كل هذا يدل جيدا على أن التطور يسير بطريقة مختلفة جدا عما كنا نظن سابقا. في الواقع، يبدو أنَّ التطور البيوكيميائي يعمل وفقا لمبدأين، أحدهما يتعلق بإنشاء جزيئات جديدة، والآخر بانتقائها.
والجزء الخلاق من التطور البيوكيميائي لا يحدث من لا شيء، فهو يصنع الشيء الجديد من نظيره القديم. وهذا ما أسميته بـ «الترقيع الجزيئي». لقد تشكلت الجينات الأولى من متواليات قصيرة من النيوكليوتيدات، يبلغ عددها ثلاثين أو أربعين، ثمَّ توسَّعت هذه القطع عن طريق متاخمة بعضها البعض أو عن طريق انقسام كل واحدة منها مرَّة واحدة أو مرَّات عدَّة. في الواقع، نجدُ في العديد من الجينات أثرَ استنساخ أو استنساخين أو ثلاث استنساخات أو حتَّى استنساخات عديدة متعاقبة تليها تنوُّعات هامة بهذا القدر أو ذاك. ويبدو أنّ استنساخَ مقاطع من الحمض النووي أو جينات بأكملها هو أحد كبريات صيغ الترقيع الجزيئي. فبالاستنساخات المتعاقبة تشكلت كبريات العائلات الجينية مثل عائلات الهيموجلوبين، والعديد من العوامل التنظيمية أو جينات عائلة الهيموجلوبين المناعية التي تؤدي وظائف المجاورة، والتعرف على مضادَّات الجينات، وانضمام الخلايا أو توجيه المحاور العصبية.
أما النمط الثاني من إنتاج الجينات، فهو إدماج مقاطع موجودة لتشكيل جينات فسيفسائية. وهنا مرة أخرى يتدخلُ عنصرُ الانتقاء. كانت المفاجأة الكبيرة أن نلاحظَ، في البروتينات، هذا البقاء الذي بلغ حدّ اللامساس تقريبا، خلال التطور، لعناصر (أو وحدات) التعرف الزخرفية. يمكن تفسيرُ هذا الاستقرار، على الرغم من التنوع الهائل للأنواع، بالقيود القوية المفروضة على هذه المواقع للتعرف أساسِ جميع التفاعلات الجزيئية، وإذن على جميع الأنشطة الكيميائية للخلية. من الضروري الحفاظ على خصوصية التفاعلات الجزيئية. ومن ثمة جمود البنيات المتدخلة خلال التطور. وهذا الجمود ينطبق على جزء الجين، مقطع الترميز أو الأكزون، الذي يحدد موقع التعرف دون أن ينطبق على مقاطع الجين التي لا ترمِّزُ أو الإنترونات ولا على الأجزاء المجاورة، أي على طبيعة المقاطع المتاخمة للأكزون المعني. وبذلك، يمكن للإنترونات ومقاطع الحمض النووي المجاورة أن يختلفا بحُرِّية، ومن ثمة النمط الثاني من الترقيع الجزيئي: وهو اندماج شظايا من الحمض النووي وسلاسل حمض نووي مشفِّرَة لأجزاء بروتينات من أجل تشكيل جزيئات فسيفسائية.
مرة أخرى، إنَّ توليفَ عدد محدود من العناصر هو ما يُنتج مجموعة كبيرة من البنيات لتشكيل المكونات الرئيسية للخلية. والتغيرات البيوكيميائية لا تستند بشكل ثانوي فقط على التحولات، كما كان الاعتقاد سائدا لفترة طويلة، بل تعودُ هذه التغيرات في المقام الأول إلى استنساخ شرائح من الحمض النووي وتطعيمها. وفي هذا التطور توجد نقط حقيقية ثابتة هي عبارة عن جُزيرات تُشكِّلُها مواقع التعرُّف النوعي. وحولَ شرائح الحمض النووي التي تقوم بتشفير هذه الجزيرات، يجري تبادلٌ حرٌّ بهذا القدر أو ذاك، على شاكلة نوع من الباليه، بين شرائح أخرى من الحمض النووي. في ظل هذه الظروف، تجدُ البنيات الأساسية أو قواعد التعرف نفسَها في جميع الكائنات الحية داخل سياقات يمكن أن تكون مختلفة في كل مرة. وبذلك، يبدو أنَّ العالم الحيّ بأكمله وكأنه نوع من ميكانو عملاق. يمكنُ تفكيك الأجزاء نفسها وإعادة تجميعها بطرق مختلفة لإنتاج أشكال مختلفة، ولكن في الأساس يتمُّ دائما استخدام العناصر نفسها.
والهيكل الفسيفسائي للجينات والبروتينات يمنحها فرصَ تفاعلات متعددة يَزيدُها تشكيل مُجمَّعَاتٍ بروتينية كبيرة جدا في بعض الأحيان. على هذا النحو، فلتنفيذ بعض العمليات الأساسية للخلية التي تحتوي على ردود فعل وتفاعلات متعددة يتمُّ تشغيل مجموعات محدَّدة. هذا هو الحال في العمليات المشارِكَة في أطوار انقسام الخلية أو تفاعلات الخلايا فيما بينها أو مراحل معينة من تشكل الفرد. والجينات التي تقوم بمثل هذه العمليات ترتبط بتعرفات الخلايا التي تربط منتجاتها بشكل وثيق. ومجموعُ الجينات المتحكمة في انقسام الخلايا هي نفسها في الخميرة والبشر، إذ حافظت على وظائفها وعلى الكثير من بنياتها طوال تطور يمتد على مدى خمس مائة مليون سنة. وقد أطلق أنطونيو غارسيا-بِلِّيدُو Antonio Garcia-Bellido على هذه المجموعات اسم «مُرَكّباتٍ syntagmes»، وهي تعمل كنوع من الوحدات المستخدمة في هندسة جميع الخلايا.
إنه أيضا بناء تحكمه مجموعات من الجينات التي تُلاحَظُ في التطور الجنيني لدى العديد من الأنواع، بل ربما في سائر الأنواع. فالكائنات الحية، والحشرات بالخصوص، تبدو تتطور على شكل شرائح متكررة، أي على شكل وحدات متعددة الخلايا. تكون هذه الوحدات في الأوَّل متطابقة، ثمَّ تختلف بعد ذلكَ بطريقة نوعية تحت تأثير مجموعات الجينات التنظيمية، كالجينات المتجانسة[9]. ودور هذه الجينات هو تغيير القواعد التي تحكم تطور وحدة النوع. على هذا النحو، فهي تحدِّدُ منطقة بشكل جيد وتمنح لكل شريحة هوية معينة، ويتم التعرف على كل منطقة من هذه المناطق، وكل شريحة من هذه الشرائح، بتوليف العديد من الجينات المنظمة للتطور الجنيني التي تعمل بالتوازي في الخلايا نفسها. وبالطريقة نفسها، يستعملُ التمايز النهائي الذي ينتج مختلف أنواع الخلايا المُلاحَظة في الجسم، يستعملُ مجموعات من الجينات المحفوظة التي تعمل معا لإنتاج، على سبيل المثال، خلايا العضلات أو الخلايا العصبية في جميع الكائنات المدروسة، من الديدان الخيطية إلى البشر. يشتمل العالم على بكتيريا وحيتان، وفيروسات وفيَلة، وكائنات حية تعيش في المناطق القطبية حيث لا تتجاوز الحرارة أقل من 20 درجة مئوية. ولكن لكل هذه الكائنات الحية وحدة متميزة من حيثُ البنيات الجسدية والوظائف. فما يميِّزُ الفراشة عن السبع أو الدجاجة عن الذبابة ليسَ هو المكونات الكيميائية بقدر ما هوَ تنظيمُ هذه المكونات وتوزيعُها. والكيمياء نفسها توجدُ ضمن المجموعات المجاورة، كالفقاريات على سبيل المثال. فما يجعل كائنا من الفقاريات مختلفا عن آخر ليسَ هو الفروقات الصغيرة الملاحَظة في هيكل هذه المنتوجات، بل هو تغيير في زمن التعبير والكميات الخاصين بمنتوجات الجينات خلال التطور.
في الطبيعة، غالبا ما تنشأ البنيات المركبة من عملية التوليف: توليف جزيئات لتشكيل الذرَّات، وتوليف ذرَّات لتكوين خلايا، وتوليف خلايا لتشكيل كائنات حية. وهي العملية الكامنة أيضا وراء تشكيل الجينات والبروتينات: توليفُ شظايا لكل واحدة منها وظيفة محدَّدة، وتتجمَّعُ إلى ما لا نهاية، لكي تؤدي أدوارا متنوعة. ويكفي عددٌ قليلٌ من هذه المقاطع من الحمض النووي لتكوين عدد كبير من الجينات.
وحدة الكائن الحي والتمييز بين الأنواع
كانَ من المدهش اكتشاف إلى أي حدّ يتم حفظُ الجزيئات في مسيرة التطور. ليس فقط البروتينات الهيكلية مثل هيموغلوبينات خلايا الدم الحمراء، والأكتيناتactines وميوسيناتmyosines العضلات أو كيراتينات kératines الشَّعر والأظافر، ليس فقط الأنزيمات، كالبيبْسين pepsine والتربسينtrypsine اللتان تتدخلان في الهضم، أو السيتوكرومات cytochromes التي تتدخل في التنفس، ولكن أيضا البروتينات التنظيمية التي تقودُ تطور الجنين وتحدِّدُ شكل الحيوان، على سبيل المثال. ويكفي مثالان لإظهار هذا الحفاظ على الجزيئات المثير للدهشة. في الذبابة التي لها تاريخ وراثي طويل، تمَّ تسليط الضوء على الجينات التي تضطلعُ، داخل البويضة، بمهمَّة إرساء هياكل جنين المستقبل، والجينات التي تحدد شكل كل واحد من هذه الهياكل ومصيره. وأمام دهشة الجميع، تمَّ العثور على هذه الجينات نفسها في جميع الحيوانات التي خضعت للفحوصات وهي: الضفدع، والدودة، والفأرة والإنسان. ومن كان يستطيعُ منذ خمسة عشر عاما أن يقول إنَّ الجينات التي تقوم بتصميم الكائن بشري هي نفسها التي تصمِّمُ الذبابة أو الدودة! يجب الاعتراف بأنَّ جميع الحيوانات الموجودة على هذه الأرض اليوم تنحدر من كائن حي واحد عاش منذ ست مائة مليون سنة وكان يملك بالفعل هذه الشحنة من الجينات.
مثالٌ آخر ليس أقل إثارة للدهشة، وهو العينان. فعند الحيوانات مجموعة متنوعة من العينين المبنية على مبادئ مختلفة جدا، بما في ذلك البويضات ذات الوجوه للحشرات والبويضات البلورية لرأسيات الأرجل وللفقاريات. رغم الاختلاف الكبير بين أنواع هذه البويضات، فهي تستخدم في بنائها جينات واحدة ترقَّعُ بكيفية مختلفة لإنتاج أعضاء مختلفة الهندسة لكنها تؤدي وظيفة واحدة. خلال نصف القرن العشرين، تمَّ الانتقالُ من مفاجأة إلى أخرى لدرجة أنه في السنوات الخمس عشرة الماضية ظهرت رؤية لعالم الأحياء جديدة كليا.
أريد أن أناقش هنا قضية أخرى، هي مسألة كبرى تأتي كنتيجة طبيعية لنظرية التطور، وتتمثل في سؤال أصل الكائن الحي، وأصل الحياة. فمن ناحية، أظهر باستور مرة واحدة وإلى الأبد أنَّ التوليدَ العَفوي لا وُجُود له. بعدَ باستور لم يعد الذباب على الإطلاق ينشأ من الخرق القديمة، فالحي ينحدر من الحي، وما من خلية إلا وتنحدر من أخرى. ومن ناحية ثانية، بعد داروين، اتضحَ أنَّ الأنواعَ ينحدر بعضها من بعض، وتنحدرُ كلها من عدد صغير جدا من الأجسام الحية البسيطة جدا، ومن هنا السؤال: كيف تشكَّلَ أول كائن حي؟
يُقدَّرُ اليومَ أن الأرض تشكلت منذُ أربعة مليار ونصف مليار سنة. كم ألْف حدث من الأحداث المستقلة تماما عن بعضها، والتي كان يمكن لكل واحد منها ألا يقعَ، كم ألف حدث كان يجبُ أن يحصلَ كي يُخلق الكونُ، ومجرتنا، والنظام الشمسي، والأرض مع الشروط الضرورية للحياة، والظروف التي تنعدمُ في باقي كواكب النظام الشمسي وهي: الماء، والمسافة الضرورية عن الشمس لتُتيحَ ألا تكون هناك حرارة مفرطة ولا برودة مفرطة. لمناقشة أصل الحياة، يجب على علماء البيولوجيا أن يوظفوا كل موارد خيالهم.
يبدو أن الحيَّ قد ظهرَ بسرعة إلى حد ما، ربما أقل من مليار سنة بعد تكوّن الأرض، وذلك على شكل ما يمكن تسميته بـ «بكتيريا أصلية (أو نموذجية أولية)». ومن يقول الحيَّ يقولُ التوالُد. ولكنّ جهازَ الاستنساخ، كما يلاحَظُ اليومَ في أبسط كائن حي وهو أصغر بكتيريا، يظهرُ بالفعل بالغ التعقيد، لأنَّ عملية استنساخ الحمض النووي وحده توظف عددا كبيرا من البروتينات، وتركيب كل واحد من هذه البروتينات يتطلبُ عددا أكبر وتنوعا أكبر من الجزيئات الكبرى. وبالتالي، فمن المستحيل أن يخرجَ مثل هذا النظام مسلحا كليا على هذا النحو بطريقة استثنائية. ومن هنا الحاجة إلى تخيل سيناريوهات محتملة بهذا القدر أو ذاك تكونُ هذه الدرجة من التعقيد فيها قد تشيَّدت تدريجيا.
يرى السيناريو الحالي أنَّ العالم كما نعرفه، والذي يهيمن عليه الحمض النووي ADN، ربما سبقه عالم آخر كان يسود فيه الحمض النووي الريبي ARN عبر عمله في واجهتي الاستنساخ وحفز تفاعلات معينة. وغني عن القول إن إرساء هذا العالم الذي يسوده الحمض النووي الريبي ARN والانتقال إلى عالم الحمض النووي ADN يقتضيان عددا كبيرا من الخطوات غير المحتملة سواء في كليتها أو في صلة إحدها بالأخرى. يُحتمَلُ أن يتم توضيح بعض جوانب هذا السيناريو، وصقل بعض الافتراضات، ولكن العديد منها لا يقبل إعادة البناء في المختبر ولا التحقق منه تجريبيا. بعبارة أخرى، يبدو واضحا أن الميكروبات والفطريات والنباتات والحيوانات، والبشر، وباختصار نحنُ الأحياء الآخرون، نحنُ جميعا ننحدر من نوع بكتيريا أصلية (أو نموذجية أولية)، ولا زلنا بعيدين عن معرفة تفاصيل الملامح الحقيقية لسلفنا المشترك.
أصل الكائن الحي
لدى النظر في أصل الحياة، يجب علينا قبول أنَّه، في غضون ثمان أو تسع مئات ملايين من السنين، تعاقبت آلاف من الأحداث، كل منها غيرُ مُحتمل، لتتيح الانتقال من أرض خالية من الحياة إلى عالم يوجد فيه الحمض النووي الريبي ARN، ثم إلى عالم يوجد فيه الحمض النوويADN . ومن الواضح أن مثل هذه القصة تبدو للمرء غير المؤهَّل صعبة القبول مثلما يصعب عليه قبول قصة الخلق كما روتها قصيدة «أنساب الآلهة» للشاعر الإغريقي هيسيودوس، أو سفرُ اليوبانشاد، أو الكتاب المقدس. ومرة أخرى، غالبا تبدو الحكايات الأسطورية أقرب إلى المنطق السليم من خطابات علماء الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية. أما هذه الأخيرة، فأمام صعوبات من المشكلة التي قد لا تجد حلا قبل وقت طويل، تصوغُ ثلاث فرضيات ممكنة:
فبعض تلك الخطابات يرى أنَّ ظهور الحياة غير محتمل تماما بحيثُ يفضل أصحاب هذا الخطاب الحديثَ، بكلام نصفه لعبٌ ونصفه جدٌّ، عن نوع من البانسيرميا (أو البذُور الكونية)، فيقولون إنَّ الجراثيم التي تعيش على الأرض قد وصلت في مركبة فضائية أرسلتها، من كوكب آخر، حضارة أكثر تقدما من حضارتنا. وكل ما يقوم به هذا الرأي الأندر هو إعادة المشكلة درجة أخرى إلى الوراء بالطبع.
ويعتقد آخرون أن ظهور الحياة على الأرض كان من الأهمية بحيث لم ينتج بدون شك سوى مرة واحدة. فهو نتج عن سلسلة من الأحداث التي كان بالإمكان ألا تنتج، ومن ثمة فقد كان بالإمكان ألا يوجد في الأرض أي كائن حي على الإطلاق. يميل هؤلاء العلماء أيضا إلى الاعتقاد بأنه على الأرجح لا توجد في الكون كائنات أخرى عاقلة بالخصوص.
وأخيرا، تُبدي فئة ثالثة من العلماء موقفا مختلفا تماما، إذ يعتبرون أن سائر المراحل المتبعة في تحقيق عالم الحمض النووي الريبي، ثم في الانتقال إلى عالم ذو حمض نووي هي تفاعلات كيميائية عادية، ومن ثمة فهي تحدثُ متى ما أتيح لها ما يكفي من الفرص والوقت. وهم يرونَ أنَّ الحيَّ لا يمكن ألا يتشكل على الأرض. بالإضافة إلى ذلك، نظرا لحساسيتهم تجاه حجج علماء الفيزياء الفلكية الذين يرون أن الكون يتضمن عددا كبيرا من الكواكب التي يُفتَرضُ أن تكون ذات خصائص مماثلة لتلك التي على الأرض، فهم يرون أنَّ الكونَ يتضمن عددا كبيرا من معاقل الحياة وربما حتى العديد من مواطن الحياة العاقلة.
في الحالة الراهنة للمعرفة، يبقى الاختيار بين الخيارين الأخيرين مسألة ذوق قبل كل شيء. فالبعض يفضلون القول بأنَّ الحياة تمثل استثناء مقصورا على الأرض، ونتيجة لذلك، يقولون بانفراد الوعي البشري بالتفكير في الكون وفيما يعيش فيه. وعلى العكس من ذلك، يفضل آخرونَ القول بتفاهة الكائن الحي الذي يعتقدون أن خصائصه في كواكب أخرى قد لا تكون مختلفة جدا عن نظيرتها الملاحظة على وجه الأرض. واقتناعا منهم، من ناحية أخرى، بأنَّ الحياة بمجرد ما تنطلق تؤدي بالضرورة إلى الوعي، فهم يحاولون إيجاد سبل لإجراء اتصال مع الحضارات الأخرى التي يظنون أنها موجودة في مناطق أخرى من الكون.
ومع ذلك، لم يتم الحصول على أي أثر لإشارة قادمة من مجرتنا أو من مجرات أخرى إلى الآن. وفي سلسلة من المراصد الموزعة في جميع أنحاء العالم تجري محاولة اكتشاف مثل هذه الإشارات باستعمال مختلف أنواع الموجات الطويلة، لكن دون جدوى إلى الآن. ولا بد من القول إنَّ هناك قضايا المسافة (أو البُعد)! مؤخرا تم لفت الانتباه إلى نيزك من المحتمل أن يكون قد جاء من كوكب المريخ وأنه قد يحتوي على بنية تذكرنا بأقدم البنيات الحية التي وُجدت على الأرض. ولكن الحجج المقدمة غير مقنعة، ويبدو أن هذه القضية تدخل في باب الدعاية لوكالة الفضاء ناسا من أجل رحلاتها المقبلة إلى المريخ لا غير.
خلاصـة
وهكذا نرى أن العلم، منذ قرن أو قرنين، قد قلَّص طموحاته بالأسئلة التي يطرحها والإجابات التي يسعى إليها. في الواقع، تعود بداية العلم الحديث إلى الوقت الذي حلت فيه الأسئلة المحدودة محل الأسئلة العامة، وإلى الوقت الذي شُرعَ في التساؤل: «كيف يسقط الحجر؟» كيف يتدفق الماء في أنبوب؟ ما هو مجرى الدم في الجسم؟» بدلا من طرح أسئلة مثل: «كيف تم خلق الكون؟ ممَّ صنعتِ المادة؟ ما هي الحياة؟». وقد كان لهذا التحول نتيجة مُدهشة. فبينما كانت الأسئلة العامة لا تتلقى سوى أجوبة محدودة كانت الأسئلة المحدودة تؤدي إلى إجابات أكثر عامة بشكل متزايد. هذا لا يزال ساريا على العلم إلى اليوم، وهو السبب في أننا لم نعد نسائل الحياة في المختبرات، ولم نعد نسعى إلى تحديد معالمها، بل صرنا نسعى فقط لتحليل أنظمة حية، وبنياتها ووظائفها وتاريخها.
بناء عليه، لا يجب مطالبة العالم بتعريف الحياة، ولكن كل واحد منا يعرف ما هي الحياة، وكل واحد منا يعرف مدى هشاشتها، وكل واحد منا يعرف لانهائية ممكناتها وتنوعها الرائع. كل واحد منا يعرف أنه ليس على وجه الأرض ما هو أغلى من الحياة، وأنَّ الحياة هي تركة هذا العالم الوحيدة، وأنَّ منح طفلٍ الحياةَ أو بالأحرى نقل الحياة لطفل هو أعمق ما يمكن أن يفعله الكائن الإنساني. قال مالرو: «الحياة ليس لها أي قيمة على الإطلاق، ولكنها لا تقدَّرُ بثمن».
فرانسوا جاكوب
[1] الإشارة هنا إلى رواية الكاتب الألماني يوهان غوته آلام الشاب فرتر، صدرت في عام 1774، تعتبر من أشهر أعمال غوته، لأهميتها في الحركة الأدبية الرومانسية، ولتأثيرها الكبير في القراء، لاسيما فئة الشباب، حيث أثارت في صفوفهم موجة من الانتحارات حزنا على بطل القصة وتماهيا مع مصيره. الترجمة العربية متوفرة: يوهان جوته، آلام فيرتير، ترجمة: د. فؤاد فريد، بيروت، المكتبة الحديثة-دار الشروق العربي، سلسلة القصص العالميى للجميع. (المترجم).
[2] جزيء (أو جزيئة) molécule: أصغر جزء من المادة يوجد محتفظا بالخواص الكيميائية لهذه المادة. (المترجم).
[3] جمع بوليمر polymère: البوليمر هو جزيئة كبيرة macromolécule تتكون من تكرار العديد من الوحدات الفرعية. (م).
[4] جمع أنزيم enzyme: الانزيم هو بروتين يحفز التفاعل الكيميائي الحيوي. (م).
[5] التأثير البعدي (أو اللاحق أو المؤجل l’après-coup): يشيع استخدام فرويد لهذا المصطلح في علاقته بمفهومه عن الزمانية والسببية النفسيين: إذ تنقَّحُ التجارب، والانطباعات والآثار الذكْروية لاحقا من التجارب الجديدة، ومن الحبو إلى درجة أخرى من النمو. وقد يُسبغ عليها عندها معنى جديدا وفعالية نفسية في آن معا». جان لابلانش وج.ب. بونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة الدكتور مصطفى حجازي، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة 2، 1987، ص. 138 (المترجم).
[6][6] جمع ريبوسوم ribosome: الريبوسومات مركبات مكونة من البروتين والحمض النووي الريبي، محفوظٌة تطوريا في نوعين من الخلايا، وتؤدي وظيفة تجميع البروتينات عن طريق فك شفرة المعلومات الواردة في الحمض النووي الريبيARN المرسال. (م).
[7] جمع capside: هو الهيكل المحيط بالجينوم، الحمض النووي (ADN والحمض النووي الريبي ARN)، ويتألف من العديد من وحدات البروتين التي تتجمع معًا لتشكيل مجموعات هيكلية متطابقة… (م).
[8][8] nucléotides: جمع نيوكليوتيد، هو جزيء عضوي يمثل لبنة بناء الحمض النووي مثل الحمض النووي ADN أو الحمض النووي الريبي ARN. (م).
[9] homéogènes: جينات تؤدي وظيفة التنظيم الجنيني، تم اكتشافها في ذبابة الفاكهة، وفي نوع من الضفادع، والفئران، ثم في البشر،وهي تحدد تصميم الكائن الحي. (م).